شخص في أخلاق نابليون وصفاته ومميزاته ما حققوه في عصرنا، ولا كان إلا رجلاً عادياً أو ممتازاً بعض الامتياز؛ فأما أن تطيعه الخلائق هذه الطاعة العمياء وتبيع نفوسها رخيصة في سبيل مجده، وتسفك دماءها أنهاراً لتحقيق عظمته، فذلك ما لا يكون اليوم كما كان بالأمس
قد تضرب لي اليوم مثلاً بموسوليني ومصطفى كمال وهتلر، ولكن الفرق عظيم جداً، فهؤلاء يؤثرون في شعوبهم من ناحية أنهم خدام للشعوب لا سادة لهم، وأن الشعب إذا عظمهم فلأنهم يخدمونه، ويوم يثبت له أنهم لا يعملون لخيره ينفضون يدهم عنه. فأين هذا من الطاعة العمياء التي كانت لنابليون؟ ولهذا نرى كلاً من هؤلاء يتملق شعبه ويحاول أن يقيم البرهان كل يوم على إنه عامل لخيره ساع في سعادته لشعوره التام بأنه إنما يحكم الشعب بإرادة الشعب لا بإرادته هو، فإذا هو لم يتمتع بهذه الثقة سقط من عرشه، وهذا - من غير شك - يقلل شان البطولة
ولهذه الأسباب التي ذكرت أنها كانت تؤذن بكثرة النوابغ هي بعينها التي قللت النوابغ؛ وتعليل ذلك معقول، فكثرة العلم واستنارة الشعب جعلت النبوغ عسيراً لا سهلاً يسيراً
ومصداق ذلك أن الأمم فيما مضى كانت تمنح المشعوذين والمخرفين ألقاب البطولة، وتنظر إليهم نظر تفوق ونبوغ؛ من أمثال من كانوا يسمونهم (الأولياء) فيكفي أن يتظاهروا بالجذب ويتصنعوا الصلاح ويدعوا معرفة الغيب ليهرع إليهم الناس ويقبلوا أيديهم ويلتمسوا منهم البركة ويرفعوهم فوق النوابغ والأبطال؛ وأحياناً يلقبوهم (بالأقطاب) فلما فتح الناس عيونهم، وعقلوا بعد غفلتهم، واكتشفوا حيلهم ومكرهم لم تعد لهم هذه المكانة، وحل بعض محلهم المصلحون الاجتماعيون الذين يخدمون أمتهم بعملهم. ومعنى ذلك أن الشعوذة والمخرفة حل محلها مقياس المنفعة وسار الناس في طريق التقدير الصحيح وهو الاحترام والتبجيل على قدر ما يصدر من الشخص من خير عام حقيقي
ومن أجل هذا أيضاً رأينا التيار في هذه الأيام يتجه إلى تقليل شأن البطولة في الأعصر الماضية، فلم يعد البطل القديم في الأدب والسياسة والفن والعلم يقدر التقدير الكبير الذي كان يقدر به من قبل، لأن الناس أخذوا يحللون كل بطل، ويبينون سر بطولته، (ومتى ظهر السبب بطل العجب) ولم يقنعهم ما كان يحيط به من غموض فألقوا أضواء كثيرة