مجتمعها وذيوع الثقافة بين أبنائها، واستعمال الكتابة الخطية وتوفر الفراغ للتروي والمعالجة والمعاودة للمنشئات الأدبية فالوصف من أهم أبواب القول التي تتسع وتترقى في طور الأدب الفني ذاك. ومصداق ذلك واضح في الأدب اليوناني قبل ازدهار الحضارة وبعده: ففي أشعار هوميروس لا يأتي الوصف إلا عرضاً ولا يوصف من الأشياء إلا ما دعت إليه الضرورة، وأكثر الاهتمام مصروف إلى القصص؛ فلما جاء شعراء الدراما واستغلوا نفس موضوعات هوميروس أحياناً، وشوها ببديع الأوصاف الفنية المقصودة لذاتها.
وفي الشعر العربي الجاهلي شذرات من الوصف رائعة، إذ كان ذلك الشعر بلغ من الفنية حداً لا باس به؛ وكان لبعض الشعراء إلمام بالموصوفات يبدون فيه ما عرف به العربي من توقد القريحة ونفاذ البديهة وبلاغة الإيجاز؛ ولهم أوصاف حسنة لبعض أنواع الحيوان ولاسيما الجياد والإبل والظباء، وللمواقع والأطلال والأنواء، وفي المعلقات نماذج لكل ذلك ممتعة، حيث يصف كل من عنترة وامرئ القيس جواده ويصف لبيد ناقته، ويصفون جميعاً أطلال ديار أحبتهم
ومن أجود أوصاف الحرب في الشعر الجاهلي قول القائل:
صريف أنيابها صوتت الحديد إذا ... قض الحديد بها أبناؤها الوقر
في جوها البيض والماذي مختلط ... والجرد والمرد والخطية السمر
جاءت بكل كمي معلم ذكر ... في كفه ذكر يسعى به ذكر
لهم سرابيل من ماء الحديد ومن ... نضح الدماء سرابيل لهم أخر
مضاعفات عليهم يوم بأسهم ... لونان جون وأخرى فوقهم حمر
وبانتشار الحضارة وذيوع الثقافة اتسع باب الوصف في العربية أعظم اتساع، ووصف الشعراء مظاهر العمران والترف وقصور الملوك ومواكبهم وحدائقهم وجيوشهم وسفائنهم، ووصفوا الخمر ومجالس الشرب والطرب، ووصفوا الجواري والغلمان، ووصفوا الصيد والسباق، وأولع الجاحظ وبديع الزمان بوصف الأحوال الاجتماعية، فصورا مناظر في الحمام وفي السوق ومواقف التخاصم والتقاضي، وأجريا الحوار بين شتى الأشخاص عالهم وسافلهم. وأشتهر أبو نواس بوصف الخمر، والبحتري بوصف القصور، والمتنبي بوصف