فإن الجاحظ رحمه الله قد بين حكمة ذلك في كتاب الحيوان (ج٤ ص١٣) وإن كانت هذه الحكمة قد جاءت في الموازنة التي عقدها بينه وبين القرد، لا فيما نحن بصدده من ذلك الأمر السابق؛ وهذا ما قاله في تلك الحكمة: إنما خص الخنزير بالذكر دون القرد مع استوائهما في المسخ لما فيه من قبح المنظر، وسماجة التمثيل، وقبح الصوت، وأكل العذرة مع الخلاف الشديد، واللواطة المفرطة، والأخلاق السمجة. وقد زعم ناس أن العرب لم تكن تأكل القرود، وكان بعض كبار القبائل وملوكها يأكلون الخنزير، فأظهر الله لذلك تحريمه إذ كان هناك عالم من الناس، وكثير من الأشراف والوضعاء، والملوك والسوقة، يأكلونه أشد الأكل، ويرغبون في لحمه أشد الرغبة.
ثم ذكر أن الخنزير يكون أهلياً ووحشياً كالحمامير والسنانير مما يعايش الناس، وكلها لا تقبل الآداب، وأن الفهود وهي وحشية تقبل كلها ذلك، كما تقبله البوازي والشواهين وغيرها، والخنزير وإن كان بهيمة فهو في طباع ذئب
فهذه الخصال التي اجتمعت في الخنزير هي التي جعلت الإسلام يهتم بأمر تحريمه ذلك الاهتمام؛ والمهم منها في نظرنا ما ذكره الجاحظ من شغف كثير من الناس بأكل لحمه واستطابته فإن هذا في الحقيقة هو الذي اقتضى أن يعنى بأمر تحريمه في الإسلام هذه العناية.
وقد أجمع الفقهاء بسبب ذلك على تحريم لحم الخنزير واختلفوا في تحريم لحم غيره من السباع، لأنه لم ينص على تحريمها في القرآن كما نص على تحريمه، ولكن جمهورهم على تحريم لحمها أيضاً، ومن خالفهم في ذلك قال بكراهة لحمها دون تحريمه. وقد اختلفوا أيضاً في تحريم الخنزير البحري، قال الربيع: سئل الشافعي رضي الله تعالى عنه عن خنزير الماء، فقال: يؤكل
وروي أنه لما دخل العراق قال فيه حرمه أبو حنيفة وأحله ابن أبي ليلى، وروي هذا القول عن عمر وعثمان وابن عباس وغيرهم، وقد أبى مالك أن يقول فيه شيئاً، وأبقاه مرة أخرى على جهة الورع. وحكى ابن أبي هريرة عن ابن خيران أن اكاراً صاد له خنزير ماء وحمله إليه فأكله، وقال كان طعمه موافقاً لطعم الحوت سواء. وقال ابن وهب سألت الليث بن سعد عنه فقال: إن سماه الناس خنزيراً لم يؤكل، لأن الله حرم الخنزير