إرليش ثائراً، وكانت ثورته جزءاً من الثورة التي بدأها بستور وطبيب القرية كوخ وسأله أساتذته أن يقطع جثث الموتى ويتعلم أجزاءها. ولكنه بدل هذا قطع جزءاً من جثة واحدة، وقطعه سليخة سليخة، وجعل هذه السلائخ غاية في الرقة ثم أكب على تلوينها بشتيت من أصباغ أنلينية بديعة اشتراها أو اقترضها أو سرقها على عين مدرسه
ولم يكن يدري هو نفسه لم يفعل هذا. وبقى إلى آخر أيامه يجد متعته الكبرى قي النظر إلى كل لون بهيج وصناعة كل صبغ زاه جميل. أقول متعته الكبرى ولا أذكر تلك المتعة الأخرى التي كان يجدها في الجدل الجموح والنقاش الشرود الذي كان يتعاطاه على مناضد البيرة ومن فوق أكؤسها
وكان يكره التربية الكلاسيكية ويعد نفسه من نصراء الجديد، ومع هذا كان يحسن الإلمام باللاتينية، ومن هذه اللاتينية كان يصوغ تلك الجمل الجامعة المقلمة التي كان يدعو بها كلما خاض غمار حرب، واستعدى العقول في الحملة على الخصماء. فبتلك الجمل الصارخة كان يعنى أكثر من عنايته بالمنطق. كان يصرخ: أي (إن الأجسام لا تعمل إلا بعد تثبيتها) وكان في صرخته يضرب المنضدة بيده حتى ترقص الصحاف التي عليها. فظلت تلك الصرخة بتلك الجملة تقوي قلبه وتحيي أمله في ثلاثين سنة لم يكن له فيها غير الخيبة. وكان إذا حدثك بهذه اللاتينية يلوح في وجهك بنظارته في إطارها القرني وهو يؤكد معناه في نفسك ويقول:(لعلك سامع! لعلك فاهم!)، ولو إنك أخذته بجده لحسبت إن هذا الهراء اللاتيني لا عقله البحاث هو الذي أفضى به إلى النجاح أخيراً. وعندي أنه أفضى بعض الشيء إلى هذا النجاح يقيناً
وكان إرليش أصغر من كوخ بعشر سنوات، وكان يعمل في معمل كنهايم في اليوم الذي عرض فيه كوخ على الناس بشلة الجمرة لأول مرة؛ وكان أرليش زنديقاً لا يؤمن بالله، فلما افتقدت السماء رباً يعبده توجه بعبادته إلى رب في الأرض، فكان كوخ. وبينا هو يصبغ بألوانه كبدا مريضه وقع على جرثومة السل ورآها قبل أن يراها كوخ بزمن، ولكن لجهله، ولقصور ذكاءه عن ذكاء كوخ، ظن تلك القضبان الملونة التي رآها بلورات جامدة، فطاش سهمه بعد أن كاد. ولما جاء مارس عام ١٨٨٢ وجلس في بعض أمسائه في تلك الحجرة في برلين يستمع إلى كوخ وهو يشرح كيف أكتشف جرثومة السل، أهتز للذي سمع