للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الثقافة، فلما تحضر العرب وتثقفوا واختلطوا بالأمم واطلعوا على أحوال الأقطار البعيدة، أتسع من جراء ذلك خيالهم وبان أثره في شعرهم ونثرهم، فالمحدثون من الشعراء لاشك أبعد خيالاً وأكثر تفنناً في التشبيهات من الجاهليين. وظهر ضرب من القص الخيالي يتجلى في مقامات بديع الزمان، ورسالة الغفران، ففي هذه وتلك مواقف وحوادث كلها من اختراع الخيال؛ ثم هناك الروايات والأخبار العديدة التي كان يخترعها الرواة والكتاب، يطلبون الأغراب والتطرف والرواج، أو يؤيدون الحجج والمذاهب.

بيد أن هاتيك جميعاً آثار ضئيلة الشأن، وهي إذا قيست بما في الإنجليزية من سبحات الخيال، لم تكن إلا شبيهة بطيران الدجاجة الخفيف مقيساً بتحليق البازي الكاسر؛ ورسالة الغفران على جمال فكرتها ومشابهتها لما في آداب الأمم الكبيرة في جريان حوادثها في عالم الخلد، وامتلائها بممتع المواقف والمحاورات، مكتظة بمسائل النحو والأدب النظرية العقيمة، التي كان كثير من الأدباء ينفقون أعمارهم في غياهبها غافلين عما هو أهم منها من حقائق الحياة وجمالها، ولم يكن الخيال ولا الجمال ولا القصص غرض المعري الصحيح حين أملاها، وإنما كانت تلك المسائل اللغوية هي مقصده الأول؛ ومقامات البديع على جمالها واهتداء البديع إلى اختراع شخصية أبي الفتح فيها، مكتظة كذلك بالألاعيب اللفظية والبراعات اللغوية؛ فالمقامات ورسالة الغفران جميلتان على أن تكونا خطوتين إلى ما بعدهما، ومرحلتين في طريق نمو القصص الصحيح وازدهار الخيال الراقي؛ بيد أن ذلك النمو لم يطرد وذلك الرقي وقف في أول الطريق. وإن من العجائب حقاً أن يكون أعظم أثر خيال في الأدب العربي من صنع شاعر كفيف محجوب عن آفاق الحياة ومباهجها

فكبح عنان الخيال كان دأب أدباء العربية حتى بعد دخول الأدب عصره الفني، فالفكرة التي تخطر للأديب الإنجليزي فيحوك حولها قصة تموج بشتى الصور المنتزعة من الحياة، أو ينظم حولها قصيدة طويلة تجمع أشتات الأفكار والمعاني، يكتفي الأديب العربي بصوغها في بيت شعر محكم يذهب مثلا ويروع بإيجازه وشموله، لا بتقصيه واستيعابه، فكل بيت من أبيات المتنبي السائرة يحوي نظرة نافذة إلى حقائق الحياة، هي بنفسها محور صالح أن تدور حوله قصة أو درامة، بينما الأديب العربي قد أودعها أوجز لفظ وأعمه

<<  <  ج:
ص:  >  >>