ما هو هذا المستقبل؟ وهل اقتربت منه شبراً واحداً وأنا أركض وراءه منذ سبعة وعشرين عاما؟ فمتى أصل إليه؟ وأين هو؟ أهو في العام الآتي، أهو فيما بعد خمس سنين؟ وهل يبقى مستقبلا إذاأنا بلغته أم يصبح حاضرا، ويكون على أن أبلغ مستقبلا آخر؟. . أيكون مستقبلي القبر؟ لقد طوفت في الآفاق، وشرقت وغربت، وأنجدت وأعرقت. . . فما رجعت إلا بالخيبة والتعب والإفلاس. فأين أجد الهدوء والراحة من هموم العيش، حتى أنصرف إلى ما خلقت له من الدرس والمطالعة والكتابة والتأليف؟
وذهب الشاب (الليسانسيه في الحقوق) يفتش عن الخبز فلم يجده عند ناشر الكتاب، ولا في إدارة الجريدة ولا في مكتب المحامي ولم يجده إلا في مدرسة القرية، فصار (معلم صبيان) فيها، يقرئهم ألف باء، ثم ارتقت به الحال قليلا، فصار يدرس سير الأدباء، وأشعار الشعراء. . . يكد ويتعب، في الليل والنهار يحمل آلام الغربة، وعناء العمل، ثم لا ينتج أثراً أدبياً، ولا يفيد علماً ولا يحفظ في جيبه درهما واحداً. . .
إنه يشتغل من اجل المستقبل. . . . . .
- ٩ -
أين ذلك الطفل الذي كان يكره المدرسة، ويبغض المعلم القاسي - من هذا المعلم الفظ، الذي يرهق الأطفال ويهز عصاه في وجوههم، ويقرع بها جنوبهم. . . من يستطيع أن يتصور أن هذا هو ذلك؟ وأي شبه بينهما؟ إنهما مختلفان في الجسم والشكل والطبائع والميول، فلن يكونا شخصا واحداً!
أين ذلك الطالب المتحمس الذي كان يقود الطلاب إلى المظاهرات، ويخطب في المساجد والمجامع والأسواق؟ من هذا المدرس الخامل الذي يلقي دروس الأدب على هؤلاء الطلاب، ويبدو فيهم كشيخ هم في الثمانين؟ هل هما شخص واحد؟
إن ذلك الطالب لو رأى هذا المدرس لأبغضه وكرهه ولما تردد في البطش به!
وأين ذلك الشاب الذي تفيض نفسه بالآمال الكبار؟ من هذا اليائس القانط الذي لم يعد يأمل في شيء، لأنه جرب فلم يصل إلى شيء؟