والأدب أشد الفنون اتصالا بتاريخ الأمة وارتباطا بتطورات المجتمع، إذ كان صدى ناطقاً دقيقاً لما يحس به الفرد والمجتمع، بل الأدب مصاحب في بدئه للتاريخ في ظهوره، يتمازجان لدى الجماعات البدائية في محاولتها تفسير ظواهر الكون والتغني بمفاخر أسلافها، ويشاب كل ذلك بالخرافات، ويظل الأدب والتاريخ مختلطين على ذلك النحو مادامت الأمة في عهد بداوتها، فإذا ما تحضرت ودونت الكتب بدأت العلوم تتفرق وتتميز ويستقل كل منها بنفسه، فظهر المؤرخون واستقلوا بأمرهم عن الأدباء، بيد أن الصلات بين الأدب والتاريخ تظل محكمة، إذ كان كل منها مرآة للمجتمع تعكس صورته من زاوية مختلفة
فالأديب لا غنى له عن درس تاريخ الماضين والتبصر في تاريخ عصره، كي يتثقف عقله ويحصف فكره لأحوال البشر، والمؤرخ لا غنى له عن النظر في كتب الأدباء ليفهم روح العصر الذي يؤرخ له ومثله العليا، ولا غنى له إذا أراد أن يجيء تاريخه كاملا عن أن يفرد جانباً منه لدرس الحياة الأدبية لذلك العصر، والمؤرخ للأدب لا ندحة له عن درس التاريخ السياسي للعصور الأدبية، والبيئات السياسية والاجتماعية التي عاش فيها الأدباء الذين يترجم لهم؛ وقد كان من عظماء اليونان والرومان أمثال ديموستين وتيوسيديد وقيصر وشيشرون من جمعوا بين البلاغة الأدبية والتأليف التاريخي، أو بين حرفة الأدب وحرفة السياسة وصنعة الحرب
إذا ما بلغت الأمة طور الحضارة والاستقرار والثقافة، ودخل الأدب في طوره الفني، تميز التاريخ وقام علما مستقلا بنفسه كما تقدم والتفت إليه الأدباء فوجدوا به مجالا لفنهم رحيباً ومرتعاً لابتكارهم خصيباً، فهم لا يكتفون باستيعاب حقائقه واجتناء فوائده، بل يتخذون من مشاهده وأحداثه ورجاله مادة وغذاء لأقلامهم، ومسارح لخيالهم ومنادح لبيان آرائهم في الإنسان والحياة، وشواهد لتدعيم حججهم في المذاهب والمشاكل، فيتخذ منه الشعراء موضوعات لقصيدهم، والقصصيون هياكل لقصصهم، ويجدون في عوالمه البعيدة وحوادثه القريبة وعظمائه النابهين مهربا للنفوس من عقال الحاضر القريب، وأحداثه العادية
كان الشعر في الجاهلية ديوان العرب لأنه - هو والقصص - كانا يحويان أخبار العرب، ويحفظان مشهور حوادثهم وأيامهم، ويحكيان أخبار رحلاتهم واستقرارهم، ويشيران إلى ما