الأسطورة عاملاً قويا في تحفيز الهمم على البحث عن الحقيقة وعلى احترام العقل وعلى إجلال فضيلة العدالة كما سنذكر ذلك فيما بعد. وهل الفلسفة النظرية الإغريقية شيء آخر غير البحث عن الحقيقة؟ وهل الفلسفة العلمية شيء غير تطبيق الفضائل التي - أهمها بعد الحكمة الناجمة عن احترام العقل المشروط في الفلسفة المصرية - هي فضيلة العدالة التي استقامت بها كفتا ميزان السماء والأرض؟
تعقل العامة
كان كل ما أسلفناه لك من تطورات دينية ومن محاولات قوية في التوفيق بين الدين والعقل هو تعقلات الخاصة والمستنيرين. أما العامة فكان لهم تعقل يخالف هذا مخالفة طفيفة حينا وشديدة حينا آخر، فهم لما وجدوا (أتوم) الممتزج عند الخاصة برع لا زوجة له ولم يستطيعوا أن يعقلوا أثره الذي سماه الخاصة (فعل الشمس) ونسبوا إليه نشوء الفراغ والهواء زعموا أنه ولد طفلين بطريقة لا ترضى عنها الأخلاق، وهما الهواء والفراغ، فتزوج ذكرهما أنثاهما فولدت له السماء والأرض، وهذان الأخيران أيضا قد تزوجا بدورهما) ولكنهما التصقا ببعضهما التصاقا محكما يحول بينهما وبين تحقق وجود الكائنات؛ فلما رأى الهواء ذلك اجتهد في تفريقهما فسعى حتى مر من بينهما ففصلهما ورفع السماء إلى أعلى فوق ذراعية، فغضب الزوجان من هذه الفرقة غضبا شديداً ومازالا يجتهدان في أزالتها حتى الآن.
وما الجبال الشامخة التي تحاول الوصل بين الأرض والسماء إلا من نتائج هذه المجهود الذي يحاوله الزوجان. غير أن هذه الفرقة التي آلمت الزوجين إيلاما شديداً كانت سعيدة، لأنها سمحت للكائنات الحية بالوجود فوق الأرض كما سمحت للشمس بأن تظهر من السماء، ولكن سكان (هيليو بوليس) الذين كانوا على وفاق هي هذه الأسطورة يبدءون بعد هذه النقطة يختلفون، فيذهب بعضهم إلى أن (نوت) الذي هو عند الفريق الأول أحد الزوجين المتفرقين إنما هو البقرة العظمى الخالدة التي تنسل كل يوم عجلا هو شمس ذلك اليوم؛ أما زوجها فهو رع نفسه، ولذلك أصبح رع في نظر هذا الفريق متزوجا وترك حياة العزوبة القاحلة. وهناك فريق ثالث تفرع من الفريق الثاني وذهب إلى أن هذه البقرة الخالدة هي (نون) التي هي أصل العناصر جميعها والتي منها نشأ رع نفسه