الفئران ألوانا كثيرة، فمن الأحمر ومن الأصفر ومن الزرق، ولكن التريبنسومات اللعينة تكاثرت وازدحمت ورقصت في دمائها ثم قتلت الفئران جميعا مائة في المائة
وزاد إرليش في سجائره الأجنبية الغالية تدخينا، حتى في الليل كان يقوم ليدخن منها. وزاد شربه المياه المعدنية. وقذف بالكتب إلى رأس قدريت المسكين، وعلم الله ما كان مثله ليلام على جهله السبب في أن هذه الأصباغ لا تقتل هذه المكروبات. ونطق إرليش باللاتينية جملا رنانة، وابتدع أغرب النظريات يشرح بها ما ينتظر من هذه الأصباغ أن تفعله، وابتدع منها أعدادا لم يسبقه باحث إلى ابتداع مثلها من نظريات كلها خاطئة. ولكن في عام ١٩٠٣ جاءت إحدى هذه النظريات الخاطئة تأخذه بيده فتهديه سواء السبيل
فذات يوم كان إرليش يمتحن ما تصنع أصباغ فصيلة البنزو بربورين - في الفئران، وهي أصباغ معقدة التركيب جملة، فوجد أن الفئران لا تحفل بها وتموت في تواصل مسئم لا انقطاع فيه. فتقطب جبين إرليش وقد كان مقطبا خلقة من هموم عشرين عاما لم يجد فيها النجاح إلى أعماله سبيلا. فقال لشيجا: -
(إن هذه الصبغة لا تنتشر إنتشارا مرضيا في جسم هذا الفأر، فلو أننا يا عزيزي شيجا غيرنا تركيب هذه الصبغة قليلا؛ لو أننا ومثلا أضفنا إلى جزيئها المجموعة الكبريتيه - فلعلها عندئذ تذوب في دم هذا الفأر وتنتشر بذلك فيه. وتقطب جبين إرليش ولم تكن يد إرليش بيد الكيميائي الصناع، ولكن رأسه كان مستودعا عظيماً ودائرة معارف واسعة لعلم الكيمياء. . وكره الأجهزة المركبة بمقدار ما أحب النظريات المعقدة. ذلك أن لم يكن يدري ماذا يصنع بالأجهزة. وإذا هو تناول الكيمياء بيده فإنما يتناولها للهو تناول اللاعب في الماء يخوض في الشاطئ الضحل ويخشى التعمق فالغرق. يبدأ ألف بدء بألف تجربة في أنابيب اختباره، فيلقي من هذه المادة على هذه، ومن هذه على تلك، وينظر ما أثر هذا في تغيير لون الصبغة؛ ثم هو يخرج متدفعا من معمله ليرى أول شخص يلقاه جمال ما وجد، ملوحا بالأنبوبة في وجهه صارخا فيه: (أنظر أي جمال! أنظر أي بدع!). أما التركيب الكيماوي الدقيق وخلق المواد الكيماوية بعضها من بعض فعمل لم يكن له إلا أساتذة الكيمياء وأبطالها.
وصاح إرليش: (لابد من تغيير تركيب هذه الصبغة قليلا، وإذن تنفع حيث لم تنفع من