فنحن نستطيع أن نعيش بغير ملكة النظر وبغير ملكة السمع أو الكلام سبعين سنة دون أن نهلك من جراء ذلك.
ولكننا لا نستطيع أن نعيش بغير الرغيف وما إليه سبعين سنة ولا سبعين شهراً ولا سبعين يوماً إلا هلكنا هلاكاً لا ريب فيه؛ ولم يقل أحد من أجل ذلك إن الرغيف أغلى من البصر، وإن ملكات الحس لا تستحق المبالاة كما يستحقها الطعام والشراب.
وندع تقويم الفكر إلى تقويم السوق، فأنا واجدون أن الرغيف أرخص من الكتاب، وأن التمثال أغلى من الكساء، وأن الحلية أقوم من الآنية الضرورية، وأن قيمة الشيء لا تتعلق بمقدار الحاجة إليه والاستغناء عنه، بل بمقدار ما نكون عليه إذا حصلناه. فنحن إذا حصلنا الرغيف فأقصى ما نبلغه في تحصيله أن نتساوى وسائر الأحياء في إشباع الجسد وصيانة الوظائف الحيوانية. ونحن إذا حصلنا الفنون الجميلة فما نحن بأحياء وحسب، ولا بأناسي وحسب، ولا بأفراد وحسب؛ بل نحن أناسي ممتازون نعيش في أمة ممتازة، تحس ما حولها وتحسن التعبير عن إحساسها.
إن الضروريات توكلنا بالأدنى فالأدنى من مراتب الحياة، أما الذي يرفعنا إلى الأوج من طبقات الإنسان فهو ما نسميه النوافل والكماليات، أو هو ما نستغني عنه ونعيش!
ولكن كيف نعيش؟
هذا هو موضع السؤال الصحيح. فان كنا لا نبغي إلا أن نعيش كما تعيش الأحياء كافة فحسبنا الضروريات المزعومة إلى حين: حسبنا الخبز حتى يجيئنا من ينزع منا الخبز أيضا ونحن لا نقدر على دفاعه، ولا نطيق غير الخضوع له والصبر على بلائه.
وإن كنا نبغي أن نعيش (أكمل) العيش فلا غنى إذن عن الكماليات لبلوغ الكمال، ولا معدي إذن عن اعتبار الكماليات من ألزم الضروريات.
ومن الواجب (ثالثاً) أن نذكر ما هو (العلم) الذي يفوقنا به الغربيون قبل أن نعقد المقارنة بين العلوم والفنون.
فالغربيون لا يفوقوننا بالعلم (المصنوع) علم الطيارات والسيارات والسفن والدبابات والمناسج والمنسوجات.
كلا! لا يفوقنا الغربيون بهذا، فان الشرقي ليحذق صناعة الطيارة إذا رآها كما يحذقها