فأدباء العربية بعد قيام الدولة الإسلامية ودخول الأدب طوره الفني الراقي، كانوا يأخذون أنفسهم بضروب من القول يطلبون بها البراعة الفنية أو الشهرة أو الحظوة والنجاح، كالتمدح بجليل الصفات والتفاخر بتالد المجد ومدح الأمراء، وجروا في ذلك على سنن مألوفة وأغترفوا من مناهل مطروفة، حتى تشابه أولهم وأخيرهم وبعيدهم وقريبهم. فإذا قرأت مئات القصائد التي نظمها مروان بن أبي حفصة وبشار وأبو تمام والبحتري وغيرهم في مدح الخلفاء، كي ترى أثر البيئة الخاصة للشاعر في كل ذلك فلن تظفر بطائل، لأنهم إنما نظموها لأغراض مادية وعلى أنماط مأثورة، لا دخل للنفس ولا لتراثها الفكري فيها. وإذا قرأت قول أبي نواس:
ومستبعد إخوانه بتراثه ... لبست له كبراً على الكبر
لقد زادني تيهاً على الناس أنني ... أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر
فوالله لا يبدي لساني حاجة ... إلى أحد حتى أغيب في القبر
فلا يطمعن في ذاك مني سوقة ... ولا ملك الدنيا المحجب في القصر
كدت تحسب قائل هذا الشعر شريفاً حسيباً عفيفاً، يزهد في غرور الدنيا ويقنع بالقليل استمساكاً بالأنفة والكبرياء، ولم تعز هذا الفخر المغرق إلى ذلك المداح السال الذي أنفق العمر في اجتداء عطايا الحكام ليبذرها في انتهاب اللذات الجسدية، وما ذاك إلا أن أبا نواس اقتفى في نظم هذا الشعر الطنان أثر أشراف الجاهلية الذين كانوا يتمدحون بالأنفة، وأراد أن يظهر أنه لا يقصر عن شأوهم في ذلك الباب من أبواب القول. والأدب العربي حافل بهذا الضرب من الإنشاء التقليدي الذي لا أثر فيه يذكر للشخصية المستقلة والبيئة الخاصة
هذا، ونشأة كثير من أدباء العربية مجهولة، وبيئتهم الأولى غامضة، وأكثرهم لا يظهرون في ضوء تاريخ الأدب إلا حين يصلون إلى ذرا الأمير، وقد كان ذلك الوصول غاية أكثرهم؛ ومن ثم نرى في تاريخ الأدب العربي بيئتين كبيرتين تتلو إحداهما الأخرى وتشملان أكثر أعلام الأدب العربي: الأولى بيئة القتال التي كانت بيئة الجاهلية، وكان الجلاد فيها هم الأشراف، والتمدح بالبلاء في الوغى هم الشعراء، وكان الأشراف في كثير من الأحوال هم الشعراء وهم الخطباء الفحول، يشفعون بلاءهم في الهيجاء ببلاغتهم في