القصيد والارتجال؛ والبيئة الثانية بيئة البلاط التي اضطرب في محيطها أكثر الشعراء والكتاب بعد الإسلام وقيام الدولة، وتأثروا بها ونظموا فيها ونثروا.
فبيئات أدباء العربية المادية والذهنية كانت كثيرة التشابه من وجوه، والبيئات الأولى التي شب فيها كثير منهم مبهمة غامضة، وقد كان نقاد العربية قليلي العناية بأمر البيئة وأثرها في تكوين الأديب، إنما كانوا يعرضون لبعض التواريخ الجافة المتعلقة بمولد الأديب ووفاته ورحلته إلى بعض العواصم واتصاله ببعض الحكام، ويستحسنون بعض ما أنشأ أو يستهجنونه، ويفضلونه أو يفضلون عليه ما قال أديب غيره في نفس الباب؛ ولهم في ذلك بعض العذر، إذ كانت للقول كما تقدم أوضاع وأنماط معروفة، يأخذ الأديب بها نفسه ما استطاع، ويحاكي الأقدمين فيها ما أمكنته براعته. أما بيئة الخاصة وتراثه الذهني والنفسي، فيذره جانباً وقلما يدخله في أدبه.
ولا يرد ذكر البيئة وأثرها في كتب النقد العربي إلا عرضاً، كالذي ورد أن أبن الرومي سئل لم لا يشبه كتشبيهات أبن المعتز، فقال لسائله: أنشدني شيئاً من قوله الذي استعجزتني عن مثله، فأنشده بعض أشعار أبن المعتز التي يشبه فيها النجوم والزهور بالفضة والعنبر ومداهن الغالية وهلم جرا، فصاح أبن الرومي: واغوثاه! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها! ذاك إنما يصف ماعون بيته، وأنا أي شيء أصف؟ ووضع الجاحظ رسالته سالفة الذكر على لسان أرباب المهن، فأجرى القول فيها مجرى الدعابة والمغالاة، وكان أولى لو عرض للأمر من ناحيته الجدية. وأستعرض بديع الزمان في بعض مقاماته عدداً من فحول الشعراء المتقدمين، فقال إن أحدهم أشعر الناس إذا غضب، والآخر أشعرهم إذا رهب، والثالث إذا شرب وهلم جرا، فلم ير إلا أن هذه جبلتهم التي فطروا عليها، ولم يتخيل لبيئة كل منهم في ذلك أثراً
أما في الأدب الإنجليزي، ولا سيما في العصر الحديث، فدرس أثر البيئة وعواملها من وراثة وتربية وثقافة وعقيدة، أساس كل دراسة أدبية وكل نقد وترجمة، والوسيلة الأولى لفهم الأديب وقدر آثاره حق قدرها، وما ذاك إلا نتيجة ارتقاء العلوم والاجتماعيات في العصور الحديثة، واستفادة الأدب الإنجليزي بمجهودات أدباء الأمم الأخرى، كأدباء الإيطالية الذين ارتقوا بعلم تاريخ الأدب، وأدباء الفرنسية الذين هذبوا أصول النقد، وقد