وكتباً في الفقه مملوءة بالمناقشات اللفظية والفروض البعيدة والاحتمالات الغريبة، لا تكاد تخلو من اختصار مخل أو تطويل ممل، وكتباً في التفسير مطولة ومختصرة فيها كل شيء من نحو وصرف ولغة وبلاغة وتاريخ وفلسفة وإسرائيليات ولكن ليس فيها تفسير واحد يرضي الشاب وينفعه ويجد فيه المراد من الآية ويعينه على التدبر الذي أمر الله به، وكتباً في الحديث مرتبة على غير حاجة العصر مبوبة بحسب أبواب الفقه أو أسماء الرواة، ينصدع رأس الشاب ويفنى صبره قبل أن يصل إلى حديث واحد يفتش عنه ويطلبه، ورسائل في علم المصطلح غامضة فيها تعقيد، وقل مثل ذلك في سائر العلوم. . . وهذه الكتب مؤلفة على طريقة لا تخلو من غرابة وشذوذ، فالكتاب الواحد متن وشرح للمتن، ومختصر للشرح، وشرح للمختصر، وحاشية على شرح المتن، وتقرير على حاشية الشرح. . . . . . ولست أفهم لماذا ارتقت أساليب الكتابة في كافة العلوم وأخذت شكلاً جديداً، ولماذا يؤلف اليوم الكتاب في الأدب على غير ما كان يؤلف عليه قبل خمسين سنة ولا تزال هذه الكتب على ما كانت عليه منذ مئات السنين لم تصل إليها موجة الحياة؟ ولماذا نجد في علماء كل فرع مؤلفين مجددين ولا نكاد نجد في علماء الدين إلا مقلدين مرددين؟ فماذا يصنع الشاب الذي لم يدرس الإسلام في مدرسة ولم يفهم كتبه؟ أيسأل المشايخ؟ إنه إن فعل لم يجد أكثرهم إلا مجلدات تمشي، ليس في ثيابهم وتحت عمائمهم إلا أوراق الكتاب، فهم يسردون عليك ما حفظوا كأنهم يتناولونه من مستودعات أدمغتهم باليد؛ ومن كان منهم ذا فكر جوال، وعقل باحث كان في كثير من الأحيان ضعيفاً في مادته العلمية، فهو يخالف الأولين والآخرين، ويتنكب سبيل الدين. وقليل منهم من جمع إلى العلم، سرعة الفهم، وفهم روح العصر، وحسن مخاطبة الناس. ثم أكثر هؤلاء المشايخ بعيدون عن الأدب ليس لهم في صناعة البيان يد، قل أن ترى فيهم من يعد كاتباً مجيداً، أو لسناً مفوهاً. على أننا بعد هذا كله نخشى أن ينقرض هؤلاء المشايخ ولا نجد لهم خلفاً؛ وعلى أنني لا أحملهم الذنب وحدهم، فالذنب على المسلمين كلهم وليس في الإسلام (رجال دين) مسئولون عنه، وقائمون به، ووكلاء عليه، ولكن رجال الدين عندنا هم كافة أهله وأتباعه، لا فرق في ذلك بين شيخ الإسلام، وأخر مسلم في أفريقيا الوسطى، أو القطب الشمالي. ولو أن أكبر شيخ في حلقته، أو خطيب على منبره، أخطأ في حكم، أو حرف آية،