للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المغلوبون قد أخذوا على الظافرين قبل التسليم كل ما يستطيع أن يأخذه الضعيف على القوي من العهود النظرية، لتأمين النفس والمال والعرض، والدين والتراث القومي؛ ولكن هذه العهود التي لا سند لها إلا إرادة الظافر، لم تكن شيئاً مذكوراً في نظر إسبانيا النصرانية؛ فلم تمض سوى أعوام قلائل، حتى كشفت إسبانيا النصرانية عن سياستها ونياتها الحقيقية فسحقت العهود المقطوعة وأرغمت المسلمين على التنصر، ولم تدخر وسيلة من الوسائل البربرية، من سجن وحرق وتشريد وتعذيب إلا استعملتها لتحقيق هذه الغاية، وسطعت محارق ديوان التحقيق في غرناطة كما سطعت من قبل في غيرها من قواعد الأندلس لتلتهم المخالفين والمارقبين، وغدا أبناء قريش ومضر نصارى يشهدون القداس في الكنائس ويتحدثون القشتالية، واختفت آثار الإسلام والعربية بسرعة، واستحال الشعب الأندلسي إلى مجتمع جديد هو مجتمع الموريسكيين أو العرب المنتصرين.

ولقد كان استشهاد الموريسكيين من أروع مآسي التاريخ، وكان هذا الشعب المهيض الذي أدخل قسراً في حظيرة النصرانية، والذي أنكرته مع ذلك إسبانيا سيدته الجديدة وأنكرته الكنيسة التي عملت على تنصيره، يحاول أن يروض نفسه على حياته الجديدة، وأن يتقبل مصيره المنكود بإباء وجلد؛ ولكن إسبانيا النصرانية كانت ترى في هذه البقية الباقية من الشعب الأندلسي المجيد عدوها القديم الخالد، وتتصور أن هذا المجتمع المهيض الأعزل، الذي أحكمت أغلالها في عنقه مصدر خطر دائم على سلامها وطمأنينتها، وتشتد في مطاردته وإرهاقه بمختلف الفروض والقوانين والمغارم، وتمعن في انتهاك عواطفه وحرماته وفي تعذيبه وتشريده، وتنكر عليه أبسط الحقوق الإنسانية؛ وكانت محاكم التحقيق تحمل هذه الرسالة الدموية المخربة، وتعمل على تنفيذها بوحشية لم يسمع بها؛ واستطالت هذه الوندالية منذ سقوط غرناطة أكثر من قرن. بيد أن الموريسكيين يحملهم اليأس العميق، وغريزة الدفاع عن النفس ولمحة باقية من عزم النضال القديم، لم يخلدوا إلى هذا الاستشهاد المؤسي، دون تذمر، ودون انتقاض، فقد ثاروا غير مرة على الطغاة والجلادين، وحاولوا مقاومة هذه السياسة الوندالية والخروج على فروضها؛ ولكن يد الطغيان القوية مزقتهم وسحقتهم بلا رأفة، وتركتهم أشلاء دامية.

وكانت أعظم ثورة قام بها الموريسكيون في وجه إسبانيا النصرانية سنة ١٥٦٩م. أعني

<<  <  ج:
ص:  >  >>