الذين ابتدعوه قالوا إنه تركب بحيث أن أي تغيير يلحقه يفسده؛ ولكن إرليش لم يستمع لما قالوا، وظل يقضي بعد ظهر كل يوم في معمله وحده يبذل في العمل كل نشاطه. وكان معملاً ليس كمثله معمل في الدنيا فلم يكن به معوجات ولا كؤوس ولا قنينات ولا ترمومترات ولا أفران. حتى ولا ميزان واحد. كان في فقره كمنضدة صيدلاني بقرية يمزج عليها ما يطلب إليه من بسائط الأدوية عند فراغه من مكتب البريد الذي يتولى إدارته أيضاً. فان كان بينهما فرق فهو في أن معمل إرليش كانت في وسطه منضدة كبيرة جداً ترصصت عليها صفوف وصفوف من قنينات، قنينات عليها أسماء أوراق باسمها، وقنينات ليس عليها أسم لها، ثم قنينات عليها أسماء لا تقرأ من سوء ما كتبت أو مما سال على ظواهرها من بواطن القنينات من أصباغ قرمزية طمست أسماءها. ولكن إرليش وعى كل تلك الأسماء برغم هذا. ومن وسط أحراج الزجاجات هذه خرج رأس مصباح بنسن واحد يبعث فوق أرؤسها بلهبه الأزرق. فأي كيميائي لا يضحك من هذا المعمل؟
وفي هذا المعمل لعب إرليش بعقاره اتكسيل. وكم صاح وهو يبعث به:(هذا جميل)! (هذا بديع)، (هذا فوق التصديق)، وهو أثناء ذلك يملي على الآنسة مركرت ويا طول ما صبرت، أو يصرخ إلى السيد قدريت في طلب هذا أو ذاك. وشاءت الأقدار أن تمنحه ذكاء كيماوياً شاذاً تمنحه البحاث أحياناً ممن ليس في مقدورهم بالطبع أو بالتطبع أن يكونوا كيماويين، فإذا به يجد أن هذا العقار قابل للتغيير، لا قليلاً بل كثيراً، وأنه يمكن تشكيله أشكالاً عدة لم يسمع بها من قبل، دون أدنى مساس بما بين الزرنيخ وحلقة البنزين.
(أنا أستطيع أن أغير الأتكسيل). وخرج يهلع بلا قبعة ولا معطف إلى معمل برتهايم معمل كيميائيه الأول أو رئيس أرقائه، وصاح فيه: إن الأتكسيل يمكن تغييره؛ ولعلنا نستطيع تغييره إلى مائة مركب، أو إلى ألف مركب من مركبات الزرنيخ. وهاك كيف يكون هذا (يا عزيزي برتهايم). وأخذ يشرح ألف طريقة لإحداث هذا التغيير. فماذا صنع برتهايم؟ بالطبع انصاع، وكيف يستطيع أن يقف جامداً أمام (يا عزيزي برتهايم)؟
وجاءت سنتان أشتغل فيهما كل من في المعمل من ألمانيين ويابانيين، ومن بعض اليهود، وكل من فيه وما فيه من رجال وفئران، غير ناسين الآنسة مركرت ولا الآنسة ليوبلد وغير ناسين السيد قدريت بجلال قدره. اشتغلوا جميعاً وكدحوا كدحاً، وأجهدوا أنفسهم