للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إجهاداً، في مثابرة ومصابرة، حتى صار المعمل كبعض مصاهر الجن يعمل فيها كل عفريت مريد. وفيه جربوا هذه المادة، ثم هذه، حتى بلغ ما امتحنوه من مركبات الزرنيخ ٦٠٦ مركب وقعوا جميعاً تحت تأثير عفريتهم الأكبر، فلم يفرغ أحدهم ليفكر في بطلان ما يصنعون، وفي استحالة ما يطلبون، وهو قلب الزرنيخ من سم معروف محبب لدى كل مجرم قاتل، إلى دواء وشفاء لم يجزم أحد بجواز وجوده، لداء لم يحلم إرليش أبداً بجواز شفائه. نعم وقع هؤلاء الأرقاء جميعاً تحت تأثير إرليش فكدحوا على نمط لا يجري عليه الرجال في كدحهم إلا إذا حفزهم إليه رجل متعصب عصي مثله، رجل خدد العزم جبهته ورقق حب الخير من عينيه.

وغيروا الأتكسيل! واشتقوا من تركيبه مركبات زرنيخ عجيبة شفت الفئران فعلاً. ويكادون يصيحون صيحة الفرح والنصر، ولكن الحظ يدير لهم ظهره فيجدون أن المكروب الفظيع، مكروب داء الورك، يذهب حقاً من الفئران، ولكن الزرنيخ يحيل دماءها الثخينة إلى سائل رقيق، أو هو يصيبها بالصفراء فتقتلها. . . . . . ومن أدوية الزرنيخ هذه ما جعل الفئران ترقص رقصاً، فهل تصدق هذا يا صاحبي! نعم جعلتها ترقص رقصاً، ولم ترقص دقيقة ثم تسكن، بل تدور ثم تدور، وتنط ثم تنط طول حياتها. عذاب مرير لها بعد شفائها من دائها ما كان يخطر على بال الشيطان لو أراده. ضاع الأمل في الدواء الكامل، وأي أمل لا يضيع بعد الذي كان. إلا أمل إرليش. كتب يقول: أنه ليسرنا أن نجد أن الضرر الوحيد الذي أصاب الفئران من الدواء أنه قلبها فصارت فئراناً راقصة. والذين يزورون معملي سيدهشون لكثرة ما يجدون فيه من الفئران الراقصة. . .) فأي رجل ملئ بالأمل والحياة!

واصطنعوا مركبات لا حصر لها؛ وكان جهادهم في كل هذا جهاد المستيئس المستبسل حين لا أمل ولا رجاء. وطلع لهم فيما طلع أحجية غريبة: وجد إرليش أن جرعة الزرنيخ الكبيرة يعطاها الحيوان دفعة واحدة تكون خطرة على حياته فجزأها إلى أجزاء صغيرة وأعطاها إياه ورجا الخير من بعد ذلك، ولكن النحس تبعه بالخيبة، فالتريبنسومات اعتادت بالتدرج على الزرنيخ فتمنعت عليه ورفضت أن تقتل به. والنتيجة أن الفئران مشت إلى فنائها أفواجاً أفواجا.

فهذا ما كان مآل المركبات الكيمياوية الزرنيخية الخمسمائة والخمسة والتسعين الأولى،

<<  <  ج:
ص:  >  >>