للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

على اتصال مستمر بذلك الأدب، لتمهدت أمامه منادح للقول من جهة، ولانصرف اهتمامه من جهة أخرى إلى المعاني دون الألفاظ، لأن المعاني دون الألفاظ هي التي تتشارك فيها آداب الأمم المختلفة، أما أدباء العربية الذين لم يطلعوا على أدب أجنبي راق، فكان اعتدادهم بتفوق اللغة العربية على اللغات شديداً، وكانت ألفاظها وتعبيراتها تقوم في مخيلتهم مقام الحقائق المتحجرة، وكان التجويد في استخدام تلك الألفاظ والتعبيرات في الأبواب المطروقة من قديم غاية الأديب، فظل بيت زهير بن أبي سلمى الذي قاله في عهد البداوة، يصدق على شعراء العربية في أوج عهد الحضارة والثقافة:

ما أرانا نقول إلا معاراً ... أو معاداً من قولنا مكروراً

ثم لاشك في أن حياة الترف وزخارف العيش التي انغمس فيها العرب بعد الفتوح، وأبهة البلاط التي كان الأدباء يحومون حولها ويتزاحمون في مواكبها، كانت من أسباب شيوع الزخرف في الأدب الذي هو مرآة للحياة المحيطة به، فإذا كان الأدب الفارسي قد كان في ذلك العهد من الضآلة بحيث لم يؤثر كثيراً في أدب العرب، فقد أثر الفرس في الأدب العربي بمظاهر الترف والبذخ المادية التي نقلها عنهم العباسيون وتركت آثارها في الأدب، وهذا الترف الأدبي كالترف المادي دليل الرخاوة والضعف، والسير إلى الانحلال.

وقد ساعدت طبيعة اللغة العربية ذلك الميل الذي غلب على أدبائها، الميل إلى التأنق في اللفظ، وتثقيله بالمحسنات التي ينوء المعنى تحتها ويتضاءل، وذلك لما للغة العربية من بلاغة أصيلة وموسيقى فخمة، وما لألفاظها وتراكيبها في النفوس من روعة وبهاء، وما لأوزان الشعر العربي وقوافيه من رصانة وجلال، وما للغة من ثروة طائلة وغنى بطرق الاشتقاق وامتلاء بالمترادفات، واتساع لصنوف التشبيهات والمجازات، بحيث يستطيع المتمكن من كل هذا أن يجمع حوله المستجيدين ويستولي على الألباب، دون أن يبتدع في المعنى أو يتعمق في الشعور. كما تصرفك عذوبة اللحن الموسيقي عن تفاهة المعنى المتغنى به؛ وقد استغل كتاب العربية كابن العميد والصاحب والبديع والحريري ثروة اللغة هذه أبعد استغلال، وجاءت رسائلهم ومقاماتهم معارض مائجة بتلك الكنوز العظيمة

ففي الأدبين العربي والإنجليزي آثار بالغة حد الفن من الصدق والعمق والجمال، تجمع بين حرارة الشعور وجودة الأسلوب؛ غير أن الأدب العربي لإحاطة تلك الظروف والعوامل به،

<<  <  ج:
ص:  >  >>