للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أن روحانية المعنى، وسمو الجو، وروعة الخيال، ليست قاصرة على الشعر ولا هي وقف عليه؛ فما أجمل ما يكتب الناثرون أصحاب النفوس الشاعرة، وما أروع ما ينتجون. . وفي جنبات سطورهم المنثورة تسفر الفتنة الخالدة التي تلعب بالمشاعر لعباً. . ولن يسيء إلى هذه الفتنة الرائعة أنها محاطة بجلال الصمت، وأنها عارية عن موسيقى الشعر التي لم تعد إليها بحاجة، فلقد كانت هذه الموسيقى تهز النفوس يوم كانت النفوس لا تزال على فطرتها طفلة رخوة؛ ولكنها اليوم لم تهز نفوساً تنصت كل يوم لموسيقى الأوتار.

لقد دار الزمن دورة قصيرة المدى، فإذا الشعر يصبح قاصراً عن أداء رسالة الفن والجمال، التي وجهه إليها علم الناس بالقراءة والكتابة؛ وليس عمر الشعر العربي الصحيح الذي أدى رسالته هذه فأحسن الأداء سوى لمحة خاطفة من عمر الزمان، فلقد وقف بعد ذلك حيناً فأطال الوقوف، ولم يخط إلى الأمام خطوة واحدة، بل إنه سار إلى الوراء خطوات وخطوات، ليصبح ترديداً معوجاً لما قال الأقدمون

ولقد ذهب الباحثون يتلمسون أسباب وقفته، ويخلقون المعاذير، وراحوا يوغلون في مسالك من القول متشعبة لا تنتهي إلى مصير؛ يضرب الأكثرون منهم على وتر واحد هو وتر الخطوب السياسية التي هدت كاهل العرب والعربية والتي طوحت بآثارهم إلى مهاوي الفناء. . ومهما يكن في ذلك من الصدق أو سلامة المنطق، فإنه لا ينهض سبباً لوقفة الشعر العربي في أيامنا هذه التي شملتنا فيها موجة من الرقي في مناحي التفكير جميعاً، إلا ناحية الشعر. . والتي بلغ نثرنا فيها مكاناً فوق مكان الأولين

وفي يقيني أن وقفة الشعر هذه، وتخاذله، وسيره نحو الفناء، لا سبب له سوى أنه قد أدركته الكهولة، فلم يبق ثمة أمل في شفائه من أهوال السنين التي تستشري اليوم في عظامه وخلاياه، والتي سوف تحيله أثراً وذكرى. فليست عقولنا كهلة ولا مريضة، وإنما الشعر هو المريض المهيض؛ وما أجدبت منا القرائح ولا زايلتنا خصوبة الخيال، وإنما الشعر هو الذي يضيق عما خلفت قرائحنا المصقولة بمعول التفكير الحديث من آفاق واسعة ممدودة الأطراف. وهاهم الأوربيون - وهم من تتحدث معجزات العصر بعبقريتهم ونبوغهم في شتى جوانب التفكير، وسائر ضروب الفن الجميل - قد أدركوا منذ زمن بعيد قصور الشعر وضيق ذات نفسه، وتوجه شعراؤهم إلى ألوان من القصة والمسرحية

<<  <  ج:
ص:  >  >>