حين يجلس إلى كتابة المقالة، ولكنه يأبى الإباء كله أن يضع جملته الفصيحة المشرقة قبل أن ينحت لها المعنى الدقيق العالي. وأشهد أنه ينحت هذا المعنى من قلب الحياة أحياناً، وقد يستأسره بلباقة من أرحب أجواء الخيال الشعري الصافي؛ فإذا امتلك عنانه وصار قيد قريحته الخصبة كساه هذه الأجنحة الطاووسية الأخاذة، ونفحه بريح طيبة من نفس العروبة الشذى الأفيح. وإذا كان في بعض ما يقرأ له الناس ما يسمونه تعقيداً فليس هو - في رأيي - بتعقيد؛ ولكن هذا الجهاد الفكري الذي يلقى نفسه في غمراته كي يقتلع المعنى من قلب الحياة، أو يستأسر الصور الجميلة من جو الخيال الشعري، ثم هذا الترفع الذي يطلبه في (الكسوة) اللفظية، وهذه النفحة العذبة التي يقصدها في مهابها من الأدب العربي القديم؛ كل هذه مجتمعة تعمل في إنتاجه هذا العمل الذي يخيل للقارئ البعيد عن روحه أنه تعقيد. ولو كان الصبر والجلد مما يسره الله لنا في طبيعتنا واستعملنا هذا الصبر والجلد في مرافقة الرافعي قليلاً لأنست به أذواقنا الفنية وأرواحنا، ولأفدنا من فصاحته العالية الشيء الثمين الغالي؛ ولكن مصيبة الرجل في هذا الجيل كما قلت لك هي مصيبة الجاد بالهازل، مصيبة من يطلب الحق بمن لا يطلب إلا موارد اللهو الميسور الرخيص. ومن الحق أن نقول - آخر الأمر - إن ضآلة ما يحمل الرجل من ثقافة أبناء الجيل الحاضر هي الأخرى من جملة العوامل على ضيعته فيهم، وذهابه عن دنياهم قبل أن يفيدوا من رسالته ما هم في أشد الحاجة إليه. ولعل هذا الجهد العظيم الذي يجهده حين يكتب فيخيل لقرائه أنه يقصد إلى التعقيد - لعل هذا يرجع إلى قلة بضاعته من الثقافة الحديثة. ولعل من آثار هذا الأمر ما نرى من عنايته في إخراج الجمل قوية دون أن يعنى، أو دون أن يستطيع العناية، بوحدة المقالة وجعل الموضوع وحدة كاملة متماسكة.
وبعد فإن الرافعي الراحل هو - في عقيدتي - بنيان أدبي شامخ ينهار قبل أن يصل إلى أهدافه السامية. رحمه الله رحمة واسعة، وعوض الأدب العربي خير العوض عن هذه الخسارة الجسيمة.