عمداً عليها. وتراءت له كأنها ألوف من خرامات الحدادين ومثاقيب النجارين تطير في المجال رائحة غادية. منظر جميل يستوقفك الساعات، ولكنه مروع، فأي المكروبات يجر على البشر من البلاء والويلات ما تجر هذه؟!
ومال هاتا عن المكرسكوب يمنة لينال إرليش من هذا المنظر نظرة. فلما رآه نظر إلى هاتا، ثم نظر إلى الأرنب ثم قال:(دونك فاحقنه) وجرت الحقنة في وريد أذن الأرنب، ودخل المركب ٦٠٦ في محلوله الأصفر إلى دم الأرنب يلقى مكروب الزهري ويقاتله لأول مرة في تاريخ هذه الدنيا.
وفي الغد لم يبق في صفن الأرنب من لوالب هذا المكروب لولبة واحدة. والقرحتان؟ سبق إليهما الجفاف وأخذت جلبة تتكون عليهما. ولم يكد يمضي على هذا شهران حتى لم يبق من الجُلبة غير جليبة صغيرة. شفاء هو السحر أو كشفاء المسيح بن مريم. واستطاع إرليش أن يكتب بعد ذلك بقليل:
(ويتضح من هذه التجارب أن هذا المكروب يفنى عن آخره تواً إذا حقن الحيوان حقنة كبيرة كافية)
وإذن جاء يومه الكبير المنظور؛ فهذه رصاصته المسحورة، فما أسرع قتلها للمكروب! وهي مع هذا سليمة مأمونة على الحيوان. وإن شككت في سلامتها فانظر إلى هذا العدد العديد من الأرانب البارئة، فهل نالها مثقال ذرة من سوء لما ضرب هاتا محقنه في آذانها بجرعة هذا الداء، برغم أنها جرعة كبيرة كانت ثلاثة أضعاف الجرعة اللازمة الكافية لمحو الداء محواً محققاً سريعاً؟ لقد نال إرليش بهذا الكشف فوق بغيته، وأطلق من هذا المحقن على الداء رصاصة أروع من رصاصته. وضحك بُحاث ألمانيا بالأمس من أحلامه، فجاء دوره اليوم في الضحك فضحك وُسع فيه. صاح إرليش:(إنها رصاصة مأمونة. إنها سم للداء، وللحي فيها البرء والشفاء) وتستطيع أن تتصور أي الأطياف كانت تطوف بخيال هذا الرجل المستوثق بنفسه استيثاقاً لا يقصر منه حد. وصاح في وجه كل أحد:(إنها مأمونة! إنها سليمة!) ولكن في ليلته ولياليه جلس في مكتبه وقد تعبأ جوه بدخان السجائر حتى ضاقت به الأنفاس؛ جلس بين أكوام الكتب وركام المجلات وقد ارتمت ظلالها حوله متراكبة غريبة؛ جلس وحده وبين يديه تلك الكراسات الزرقاء الخضراء