البرتقالية الصفراء التي كان ينقش عليها كل ليلة في انبهام كل ما يخطر بباله مما سيصدره إلى رجاله وعبّاده من الأوامر في الصباح الطالع. ففي هذه الحجرة خلا إرليش لنفسه فسألها في خفوت:(أحقاً أنها سليمة مأونة؟)
إن الزرنيخ سم محبب إلى السمامين. . .؟! قال إرليش محتجاً،: (ولكنا تناولنا طبيعته بالعجب العجاب فغيرناها)
وهذا الذي شفا الفئران والأرانب قد يقتل الرجال. .؟! قال إرليش مجيباً:(إن النقلة من الأرانب والفئران نُقلة خطيرة، ولكنها خطوة لابد منها)
وطوى الليل رداءه الأسود، وانبلج الصباح وبعث شعاعه الأبيض إلى المعمل ينشر فيه مع النور الأمل والثقة والإقدام. ودخله إرليش فنظر فوجد الأرانب التي برئت، ولقي عونه برتهايم، هذا الرجل الساحر الذي لوى الزرنيخ الفاتك ثم لواه ستاً وستمائة مرة حتى عاد حربه سلاماً. وتشمم إرليش فسطعت في أنفسه رائحات مائة مخلطات طيبات لمائة من حيوانات تجريبية، ورائحات ألف مختلطات طيبات لألف من مواد كيماوية، وتلفت إرليش يمنة ويسرة فوجد كل هذا الجمع من أعوانه رجالاً ونساء يؤمن به ويثق فيه. إذن فما التشكك وما التردد؟ وهيا أيها الأعوان إلى هذه الخطوة الأخيرة نخطوها ولو خطيرة فقد والله خاب من أحجم
كان إرليش في قراءة نفسه مقامراً، ومَن من كبار صادة المكروب لم يكن مقامراً؟!
وقبل أن يزول تقرّح صَفَن الأرنب بتمامه، وقبل أن تسقط عنه أخيرة جلباته، كتب إرليش إلى صديقه الدكتور كنراد ألْت يقول:(فهل لك أن تتكرم فتجرب هذا المركب الجديد رقم ٦٠٦ في مرضى الزهري من بني الإنسان؟)
فأجابه الدكتور ألت:(بالطبع نعم). وأي ألماني لا يجيب بهذا وهم قوم غلبِ صعاب؟
وجاءت سنة ١٩١٠ فكانت سنة إرليش الكبرى. ففي يوم من أيام هذه السنة انعقد المؤتمر العلمي في مدينة كونجزبرج
فلما دخله إرليش دوى المكان بالتصفيق الشديد وزاد وحمي حتى خيل أن الناس أصابتهم الحمى، وطال حتى خيل أن إرليش لن يقوم فيُلقي في القوم مقالته. وقام أخيراً فحكى لهم كيف تمهدت السبيل بعد لأي إلى وجدان الرصاصة المسحورة، ووصف لهم داء الزهري