وكلما كان إدراك الذرة واضحاً وتصويرها للكون دقيقاً، كانت أكثر حيوية وأحد نشاطا، والله تعالى هو وحده القادر على ان يكون له إدراكات واضحة لا يشوبها شيء من غموض أو ما يشبه الغموض، وإذن فهو وحده عبارة عن فاعلية خالصة ونشاط مطلق، وكل مخلوق سواه من الإنسان فنازلاً إلى أحط الكائنات، يكون فعالا من ناحية ومنفعلا من ناحية اخرى، وهذا الجانب المنفعل من الذرة، أي الجانب السلبي، هو ما يسمى بالعنصر المادي. أي أن وجود المادة السلبية في الذرة القوية هو الذي يحول دون وضوح إدراكها. وبعبارة واضحة. كلما رجحت في الكائن كفة الجانب الروحي الفعال على العنصر المادي السلبي كان اكثر وضوحا في إدراكه.
وانك لترى العالم مليئا بهذه الذرات المدركة، كل منها مستقل منعزل. ومع ذلك لن تجد بينها فواصل تباعد بينها، بل هي متداخلة بعضها في بعض، متصلة على أشد ما يكون الاتصال، وهذا ما يسميه ليبنتز بقانون الاستمرار. فليس ثمة تناقض أو اضطراب. أبدأ من المادة الجامدة إلى العقل المفكر تجده طريقا واحدة متصلة يتزايد فيها الإدراك شيئاً فشيئا في تدرج غير محسوس، وسر من النبات إلى الإنسان فسترى انك انما تسلك سبيلا ليس فيها حوائل أو عثرات. بل تعلو بك قليلا حتى تنتهي إلى قمة الجبل دون أن تشعر بالصعود!
ويشير ليبنتنز إلى مراحل ثلاث تجتازها في طريقك من الكائنات الدنيا إلى طبقاتها العليا. فذرات الطبقة السفلى. أي ذرات الجماد والنبات تدرك وكفى. فهي أشبه ما تكون بالأحياء الغافية أو النائمة التي لا يرتفع إدراكها إلى درجة الشعور. والمرتبة التالية لتلك هي ذرات الحيوان، ولها فوق الإدراك ذاكرة. ولكنها لا تسمو إلى درجة العقل، وإدراكها شبيه بالأحلام الغامضة، ثم تجيء الكائنات البشرية فوق تلك المرتبة، وهي التي وهبت عقلا وشعورا بالذات. ويذكر لينتنز ان الله تعالى هو أسمى هذه المراتب جميعا فبينما تراها تتفاوت في إدراكها غموضا ووضوحا، ترى إدراكاته سبحانه وتعالى واضحة كلها.
وليست هذه الذرات مطمئنة إلى مراتبها راضية بمقامها، بل تسعى كل واحدة سعيا متواصلا إلى السمو والارتفاع نحو الكمال لا ترضى به بديلا. فهي دائبة أبداً. لا تدخر وسعا لكي تحقق هذا الكمال الأسمى بانتقالها من مرتبة إلى مرتبة حتى تصل إلى هدفها المنشود، وليس من شك في أن ليبنتنز كان بذلك القول بشيرا بمذهب دارون الذي لا يعدو