للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المفكران العظيمان في مواطن كثيرة. مثال ذلك ما يقوله ابن خلدون في فاتحة مقدمته عن قيمة التاريخ في درس أحوال الأمم، ثم أقواله عن آثار البطش والسياسة العاسفة في نفوس الشعب، وعن خلال الأمير وتطرفه أو توسطه فيها، وعن حماية الدولة وأعطيات الجند، وعن منافسة الأمير للرعية في التجارة والكسب؛ وعن تطلع الأمير إلى أموال الناس وأثر ذلك في حقد الشعب عليه، وعن تطرق الخلل إلى الدولة وامتداد يد الجند إلى أموال الرعية، وكذا ما يقوله عن كتبهَ (سكرتارية) السلطان فهذه كلها نقط أو موضوعات يعالجها مكيافيللي أو يقترب منها سواء في كتاب الأمير أو في كتاب آخر له هو (تاريخ فلورنس) تتخلله تأملات فلسفية واجتماعية كثيرة. وقد لا يتفق مكيافيللي مع ابن خلدون دائما في الرأي، أو في منحى التفكير، ولكن كثيرا مما يقوله المفكر العربي يتردد صداه فيما يقول المفكر الإيطالي. فابن خلدون هو بحق أستاذ هذه الدراسة السياسية الاجتماعية التي تناول مكيافيللي بعده بنحو قرن بعض نواحيها؛ وهو بالأخص صاحب الفضل الأول في فهم الظواهر الاجتماعية وفي فهم التاريخ وحوادثه وتعليلها، وترتيب القوانين الاجتماعية عليها بهذا الأسلوب العلمي الفائق.

قال العلامة الاجتماعي جمبلوفتش: (إن فضل السبق يرجع بحق إلى العلامة الاجتماعي العربي (ابن خلدون) فيما يتعلق بهذه النصائح التي أسداها مكيافيللي بعد ذلك بقرن إلى الحكام في كتابه (الأمير). وحتى في هذه الطريقة الجافة لبحث المسائل، وفي صبغتها الواقعية الخشنة، كان من المستطاع أن يكون ابن خلدون نموذجاً للإيطالي البارع الذي لم يعرفه بلا ريب) وقال استفانو كلوزيو مقارناً ابن خلدون بمكيافيللي؛ (إذا كان الفلورنسي العظيم (مكيافيللي) يعلمنا وسائل حكم الناس، فإنه يفعل ذلك كسياسي بعيد النظر، ولكن العلامة التونسي (ابن خلدون) استطاع أن ينفذ إلى الظواهر الاجتماعية كاقتصادي وفيلسوف راسخ، مما يحمل بحق على أن نرى في أثره من سمو النظر ومن النزعة النقدية ما لم يعرفه عصره).

وقد نتساءل أخيرا، هل وقف المفكر الإيطالي على شيء من تراث ابن خلدون واسترشد به، أم وقف على شيء من آثار المفكرين المسلمين قبله في موضوع السياسة الملكية وانتفع بها؟ نعتقد مع العلامة جمبلوفتش أن مكيافيللي لم يعرف حين كتابة (الأمير) شيئا عن ابن

<<  <  ج:
ص:  >  >>