هو من تحزنه الزهرة الذابلة، وإنه يشاهد في ذبولها صفحة حياته البالية. . .
هو من يخيفه قصف الرعود لأنه يعيد إلى ذهنه ذكرى الحروب والثورات. . .
بلى. . . في شعر طاغور شاهدت كيف يحرق الألم نفس الشاعر، وسمعت زفرات قلب متفطر ينسحق في قبضة الأسى والحنين، ويتبعثر بين غمائم التذكار والكآبة!
وطاغور شاعر متفنن ذو رقة لذيذة وخيال طافح بالعذوبة، وأنت إذا قرأت قطعة من شعره فكأنك تقرأ روحاً تذوب في مرجل آلامها وحسراتها، أو تشرب كأساً من الدموع المريرة
إذا حدثك عن حب مستتر في كهوف الماضي، فأنت ترى ذلك الحب بعينيك. وإذا رسم لك ما ينهش قلبه من أسى وحنين فتكاد تسمع ذلك بأذنيك فتحترق شفقة عليه!
يداعب ميولك ومشاربك فتحس به قد دخل عليك واحتل ذاتيتك، فتتعشقه راكضاً وراء الفراشة في الحقل، أو صاعداً إلى النجوم على سلم منسوج من ضوء القمر
وهو خيالي. . . ولكن ياله من خيالي رائع يحاول أن يملأ كأسك من عصير روحه الساحرة. لكنه يعترف لك بأن هذا الذي يرشحه في مراشف سطوره وتعابيره ليس سوى أنداء هابية سكبتها الطبيعة في روعه الخافق ليفرغها في محاجر الإنسانية التي تريد التملص من قيودها وأغلالها
فمن هذا يستدل القارئ على بعد غور شاعريته، وصفاء مصدره، وصدق عقيدته، ورحابة آفاق تأملاته وأحلامه!
تأمله وتساؤله
لم يعرف الأدب العالمي في أوائل هذا الجيل شاعراً كثير التأمل والتساؤل إلا - بيير لوتي - الأديب الفرنسي المشهور، هذا الشاعر الحساس أخرج للناس طائفة من القصائد والقصص هي غاية في الاستغراق والتحالم بينها كتاب (موت أنس الوجود) الذي رسم فيه ليالي مصر المقمرة البيضاء رسماً يغمر القلوب بموجة من السحر والجمال، وينبه في سراديبها المظلمة أشباح الشجن والحنين، ويعلم الناس أن بيير لوتي لم يفعل ذلك إلا ونفسه مستبشرة بنور الفن، ثملة بلذة المذهب الوجداني وفتونه. ولكن طاغور، أي حافز، بل أي داع دفع به إلى اجتناء تلك الزهرة اليانعة وهو رجل يعيش في معترك بعيد من الفن والنضج والألمعية. إذا لم يكن ذلك دليلاً واضحاً على أن الروح العظيمة، الروح المستنيرة