وحده، فيغلبه الفكر في تلك الحوادث، فيأخذ يكتب على هوامش الورقات ما يعن له من تفسيرات، أو هو يكتبها على ظاهر مجلات قصصية تحكي عن فظائع وجرائم بوليسية كان يفزع دائماً إلى قراءتها ظناً منه أن فيها دون سواها راحة البال المكدود ورياضة النفس المريضة، ولكنه ما استروح قط ولا استراض، وكيف يفعل وهذه البلايا تتقفى أثره فتذهب بالذي كسبه من مجد عظيم.
وزادت أسارير جبينه تغضناً، وازدادت تعمقاً، واسود ما تحت عينيه الزرقاوين، وبقيت فيهما بقية ما فتئت ترقص من تلك الفكاهة الهادئة المستحية.
فهذا المركب رقم ٦٠٦ نجى آلافاً من الموت، ونجى آلافاً من الجنون، وخلص آلافاً آخرين مما هو شر من الموت: من قطيعة المجتمع إياهم لما ضرب المكروب في أجسامهم ضرباً، وأكل منها أكلاً، حتى صارت مناظرهم في العين قذى وفي الأنفس تهوّعاً. ولكنه بعد تنجيته المرضى بهذه الآلاف أخذ يقتل منهم بالعشرات، وأخذ إرليش ينهك جسمه الناحل أو ما تبقى له من جسم، حنى أصبح خيالاً، وذلك ليفسر أحجية عز على الحكماء تفسيرها. ولقد مضى الآن على آخر سيجارة دخنها إرليش عشر سنوات، والأحجية ما زالت أحجية. فترى من هذا أن النجاح العظيم الذي كسبه إرليش كان أكبر حجة على بطلان نظرياته. قال:(إن المركب رقم ٦٠٦ يتحد اتحاداً كيميائياً بالمكروب فيقتله، وهو لا يتحد مع الجسم فهو لا يناله بسوء). هذه نظرية من نظرياته فأين هي مما جرى؟
إن المركب رقم ٦٠٦ مركب ذو كيمياء معروفة، ولكن تفاعله مع الجسم تفاعل خاف مجهول، وأخفى منه كيمياء هذا الجسم الإنساني العجيب، هذه المكنة الحية الغريبة، هذا الطلّسم الذي لا نفهم إلى اليوم منه وآسفاه كثيراً. ولقد أخطأ إرليش ونال عاقبة خطأه، لأنه لم يدرك إلا بعد فوات الأوان أن رصاصته المسحورة يطلقها آلاف المرات فتصيب غايتها من المكروب آلاف المرات، ولكنها قد تطيش أحياناً فتصيب غير غايتها فتقتل العدو والصديق. على إنه لا تثريب اليوم عليه ولا ملامة، فإن يكن أردى العشرات فقد رد الصحة والسلامة على الألوف. وصادة المكروب العظام ماذا كانوا سوى سادة مقامرين، إذن فلنذكر إرليش بالحمد، ولنذكره بشجاعته وجرأته ومخاطرته، ولنذكره بما دفع من البؤس عن ألوف كثيرين