للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يجلس إلى مائدة حافلة بما يسكت هذه العصافير المزقزقة ويعفيه من ثقل الشعور بما يتلوى في جوفه. فإذا رأى جمالاً فبعيد جداً أن يحبه مهما بلغ من ظمأ النفس إلى الحب؛ وقد يشعر بالسرور وينشرح صدره ولكنه لا يتمهل في عدوه إلى البيت أو إلى حيث يكون الطعام الذي يطلبه ما لا سلطان له عليه، وأحسب أن كل ما يؤدي إليه رؤية الجمال في هذه الساعة هو أن السرور يزيد القدرة على التهام الطعام.

ويأكل المرء وينام ويستيقظ ويقوم متثاقلاً، وقد أصاب حظاً من الراحة - لا كل ما يحتاج إليه - ويستحم أو يكتفي بغسل رأسه ووجهه ولكن الثقلة لا تزايله، لأنه لم يستوف نصيبه العادل من الراحة، ولم يعوض كل ما أنفقه في يومه، فهو لا يزال متعباً ولكنه تعب خفيف لا يشق على النفس ولا يبهظ الجسم احتماله. وهذا هو الوقت الخطر على ذي القلب الحساس. ويستوي أن يكون الوقت العصر أو نصف الليل فإن المهم أن يكون الجسم متعباً بعض التعب وأن يكون تعبه بحيث لا يثقل عليه ولا يمنعه أن يخرج ويجالس الناس ويشهد السينما ويسهر مع الساهرين ويلتمس المتع التي يلتمسها الناس في العادة بعد أن يفرغوا من أعمالهم ويتخلوا لأنفسهم. والتعب الخفيف هو الخطر. وهذا لا وقت له على وجه التعيين فقد يكون العصر وقته عندي في يوم والصباح وقته في يوم آخر. والتعب الخفيف هو فرصة الأمراض والحب لأن المرء لا يفطن إليه ولا يباليه ولا يتحرز من عواقبه ولا يحاول أن يقاوم ما يهجم عليه في فترته، فكأن المرء يؤخذ على غرة، وأهبته للكفاح والمقاومة غير تامة.

ولو عنى الإنسان بأن يدرس نفسه ويتدبر حالاتها لوجد أنه لا يمكن مثلاً أن يفضي بسر له يحرص عليه وهو مستجم مستريح الجسم، وإنما يبث نجواه ويقول بسره وشجوه حين يكون متعباً قليلاً - كائناً ما كان سبب التعب، فقد يكون ذلك من جراء العمل أو يكون بفعل الخمر أو يكون بعد المشي مسافة طويلة أو بعد جلسة يمتد زمنها، أو على أثر برد خفيف إلى آخر ذلك - وصاحب الجسم المستوفي نصيبه من الراحة لا يخطر له مثلاً أن يخوض بحثاً في نظام الكون، ويروح يجزم بما يدور في نفسه من الأوهام التي يحسبها حقائق لا تدفع، لأن صحة الجسم تساعد على إدراك القصور الإنساني. وإنما يفعل ذلك الذي به تعب خفيف لا يحسه، ولا يعرف له وطأة. والتعب الخفيف يهيج شهوات الجسم كما يتيح

<<  <  ج:
ص:  >  >>