أنا مبتدئا، فصرفني عن البهاء زهير وابن الفارض وابن نباتة ومن إلى هؤلاء، ووجهني إلى الأدب الجاهلي والأموي والعباسي، ودلني على ما ينبغي أن أقرأ من الأدب الغربي. وكانوا ينقدوننا في هذه المدرسة بضعة جنيهات في الشهر: ثلاثة في السنة الأولى، وأربعة في الثانية والثالثة، فكنت أقسم هذه الجنيهات قسمة عادلة، فأدفع للبيت نصفها وأستأثر بالنصف، وأذهب إلى مكتبة فأنتقي منها (مؤونة الشهر). وكنت أعود إلى البيت بهذا الحمل فتسألني أمي، (أنفقت فلوسك كلها! وتظل طول الشهر تقول لي: هاتي!. هاتي!. أي تدبير هذا؟)
فأقول:(يا أمي. . لك مئونتك من السمن والعسل والأرز والبصل والفلفل والثوم، ولي مئونتي من المتنبي والشريف الرضي والأغاني وهازليت وتاكري وديكنز وماكولي؛ ولا غنى بك عن سمنك وبصلك، ولا بي عن هؤلاء؟)
فتبتسم وتقول:(طيب. .) وتدعو لي بالتوفيق
وكنت أشتري ديوان الشعر ورقا، أعني بغير غلاف أو تجليد، ليتسنى لي حين أخرج من البيت أن أحمل معي ملزمة أو ملزمتين، أقرأ فيهما وأنا جالس في مقهى، أو إذ أتمشى على شاطئ النيل. وكان حديثنا إذ نجتمع في الأدب والكتب؛ وكانت رسائلنا التي نتبادلها في الصيف حين نفترق لا تدور إلا على ما نقرأ؛ وكان أحدنا يلقى صاحبه في الطريق اتفاقاً فيقول له:(لقد عثرت على كتاب نفيس بغلاف فتعال نقرأه) لا يدعوه إلى طعام، أو شراب، أو سينما، أو لهو، بل إلى قراءة كتاب. وكان كل من يقع على كتاب قيم يخف به إلى صاحبه فينبئه به ويخلصه له ويحضه على اقتنائه. وكان أساتذتنا في مدرسة المعلمين يحثوننا على التحصيل وييسرون لنا أسبابه، ما وسعهم ذلك، فلما تركنا المدرسة وفرغنا من الطلب (الرسمي) كنا قد عرفنا أمهات الكتب في الأدبين العربي والإنجليزي، وغيرهما أيضاً من الآداب، ودرسنا أكثر شعراء العرب والغرب، وكان لكل منا مكتبته الخاصة المتخيرة
وتزوجت. وفى صباح ليلة الجلوة، دخلت مكتبتي ورددت الباب. وأدرت عيني في رفوف المكتب، فراقني منها ديوان (شيللي) فتناولته وانحططت على كرسي وشرعت أقرأ، ونسيت الزوجة التي ما مضى عليها في بيتي إلا سواد ليلة واحدة؛ وكانوا يبحثون عني في