علمه أو أدبه حتى لا يدركوه إلا بعد أزمان، وعلى مقدار هذا السبق يكون النبوغ. فسيبويه نابغة في النحو، لأنه رأى من قواعده ما عجز أهل زمانه عن النظر إليه).
وأنا أقول كما يقول الأستاذ: إن النابغة يفوق أهل زمانه في معرض من معارض العلوم والفنون، ولكني لا أقول إن عصرنا لم ينجب أمثال سيبويه، بل أقول إن سيبويه لو عاش في عصرنا لما فاق نوابغه الأحياء. وإن نوابغنا الأحياء لو عاشوا في عصره لما قصروا عن شأوه، لأن الملكات التي تعرف وحدة الأسماء والأفعال بين لغات أوربا ولغات آسيا لا تقل عن الملكات التي تعرف الوحدة أو الاختلاف بين قبيلة وقبيلة من أبناء البادية، لا لأن الأمر يرجع إلى كثرة المتعلمين عندنا وقلة المتعلمين قبل نيف وعشرة قرون.
وعندي أن المعاصرين ينظرون إلى نوابغهم وأبطالهم كما كان الأقدمين ينظرون إلى النوابغ والأبطال في عصورهم إلا من كان منهم موسوماً بسمة الدين أو محوطاً بهالة الإيمان.
فالأستاذ يقول أن نابليون ظهر (فاستعبد الناس وأجرى الدماء أنهاراً وقلب الممالك رأساً على عقب ودوخ الدنيا فكان نابغة حقاً في ناحية. وبيننا الآن في عصرنا من هم أعلم منه بفنون الحرب ومن هم أقوى منه إرادة وأبعد نظراً، ولكن من الصعب أن نسميهم نوابغ، لأن الناس ليسوا مغفلين كما كانوا أيام نابليون. ولأنه وحده هو القاهر المريد ومن حوله كانوا المنفذين المأمورين، فظهر ولم يظهروا، ونبغ ولم ينبغ بجانبه إلا قليل).
فليت الأمر كما يبشرنا الأستاذ من هذه الناحية: إنما الواقع أن أحداً من أبناء القرن الثاني عشر لم يناد بأن الإمبراطور معصوم كما ينادي الفاشيون من أبناء القرن العشرين بعصمة (ألد وتشي) وطاعته بغير تفكير ولا امتعاض.
والواقع أن نابليون لم يجسر يوماً على صنيع كالذي صنعه (الفوهرر) قبل ثلاث سنوات من (تطهير) البلاد بلا محاكمة ولا سؤال.
وقد كان (لفين) ينحي على القديسين، ولا يعترف للعظماء بأثر في توجيه التاريخ إلى الأثر الذي يعترف به الشيوعيون، فلما مات أقاموا له ضريحاً لم يحلم به كاهن ولا راهب في عهد القياصرة أو عهد الكنائس والقديسين.
وإننا لنسمع كل يوم عن الألوف التي تندفع حول نوابغ الصور المتحركة للظفر بتوقيع