ومن تلك العلل ما أومأنا إليه في مقالنا الأول عن سهو الذين يقارنون بين الماضي والحاضر فيجعلونها كفتين تتساويان في نطاق الزمان والمكان، مع أن الحاضر زمن واحد والماضي حاضر قد تتكرر عشرات ومئات
وعندنا نحن الوارثين للثقافة العربية سببان آخران لا يلحظان بهذه القوة في جميع الشعوب: أحدهما أن العربي يعتز بالأنساب وينوط الفخر كله بماضيه، لأنه سلالة من القبائل التي تغلب فيها العصبية وترسخ فيها الأصول.
والثاني أن الماضي أقرب إلى منشأ الدين، فيخيل إلينا أن الأقدم فالأقدم هو الأصلح فالأصلح والأعلم فالأعلم، وإن لم تدلنا الدلائل على اطراد هذا القياس
تلك الأسباب كلها خليقة أن تضعف احتراسنا كلما عمدنا إلى الموازنة بين حاضر وغائب وقريب وبعيد. فهي صنجة تؤخذ من كفة الأقدمين وتضاف إلى كفة المحدثين في ميزان الأنصاف. ومما لاشك فيه أن ملكات النبوغ لا تقل في عصرنا بل هي أحجى أن تزيد وتنشط، بل هي قد زادت ونشطت فعلا باتساع مجال السعي والمنافسة والتفكير والاستنباط؛ ومما لا شك فيه أن الأقدمين لم ينظروا إلى معاصريهم إلا كما ننظر نحن إلى معاصرينا، وأنهم لم يشعروا قط بتلك المهابة التي نضفيها عليهم الآن ولا بذلك الترجيح الذي نمحضهم إياه. أما أنهم كانوا يرون نوابغهم وأبطالهم كما نراهم الآن فذلك ما نخالف فيه الأستاذ لأنه خلاف المعهود والمروي والمسطور. وهبهم أكبروا معاصريهم لأنهم قلائل، وأصغرنا معاصرينا لأنهم كثيرون لا نادرون كما يقول الأستاذ الفاضل، فإنما يكون ذلك كالذهب الذي يكثر تداوله فيرخص سعره وهو ذهب لا شك فيه. وإنما يكون النبوغ نبوغاً ولا يكون شيئاً آخر مهما يكن حظ الناس من التعليم، لأنه ملكة في الطباع لا يختلف كنهها وإن اختلفت أنظار الناس إليها، ولا تزال الإنسانية بحاجة إلى الكثير منهم والقليل
وخلاصة القول إننا نستطيع أن نقول مع الأستاذ الكبير إن النبوغ في عصرنا كثرة لا ندرة، ولا نستطيع أن نقول معه أن المسافة بين النابغ وسواد الناس تقترب في العصر الحديث، لأن ازدياد التعليم يزيد نصيب المتعلم من المعرفة ولا يخوله فطرة أخرى ولا ملكة مطبوعة كتلك التي يخلق بها النابغون الممتازون