الظهر أو العصر أو الليل، وإنما أردت أن أبين أن الحب - ككل مرض - تكون فرصته حين يكون الجسم متعباً قليلاً وأن كان المرء لا يدرك ذلك ولا يفطن إليه. وهذا التعب الخفيف لا وقت له، وما أكثر ما أصبحت برأس مصدع على الرغم من النوم ساعات طويلة فأضحك وأقول لزوجتي:(يا امرأة، هل رأيت أحداً قبلي يفطر على الأسبرين؟) فتسألني: (أبك حاجة إلى الأسبرين؟) فأقول: (نعم بي حاجة إليه. . إلى صيدلية كاملة من الأسبرين. . . ولكني سأحاول الاستغناء عنه، إنما أردت أن أبين لك أن زوجك أعجوبة. . الناس غيري يصبحون وريقهم يجري على الفول المدمس والبيض والقشدة واللبن والشاي والمربيات وما إلى ذلك، أما زوجك المحترم فلا يخطر على باله شيء من ذلك كل همه قرص من الأسبرين يعفيه من وقع هذه الفؤوس التي تحطم رأسه)
فتقول:(الذنب لك. . من قال لك أفعل ما فعلت البارحة؟)
فأقول:(يا ستي أن المهم الآن هو التسكين وبعد ذلك يصح أن يجيء دور الحساب. . . ثم إني لا أذكر ماذا كنت أصنع البارحة. . كلا. . لا يختلج في ذاكرتي شيء. .)
وأما صاحبنا الذي كان يرى فتاته كل صباح فأحبها، فأقول له أن هذا ليس من الحب على الريق وقد وقع لي ما وقع له، أيام كنت تلميذاً في المدرسة الخديوية، وكان بيتي في (البغالة) وطريقي إلى المدرسة من درب (الجماميز) وكنت أرى في كل صباح فتاة على وجهها النقاب الأبيض وحولها ذلك الإزار الأسود - وكان هذا هو اللباس الشائع في ذلك الزمان - ومعها خادمها يحمل لها كتبها ويتبعها ويحرسها، وهي ذاهبة إلى المدرسة السنية، وعائدة منها إلى البيت فكنا نلتقي كل يوم، واستملحت وجهها، وأعجبني قدها، فكنت أتعمد أن اقف على أول الطريق حتى أراها مقبلة وتكرر ذلك فصار عادة.
ومضت سنوات طويلات وأصبحت مدرساً، وإني لراكب مرة إلى الجيزة وإذا بي أرى أمامي فتاتي القديمة، ومعها طفلان فعرفتها، فما تغيرت عن العهد بها، ونظرت حولي فلم أر أحداً معها سوى هذين الطفلين فتشجعت وقلت لها:(اسمحي لي. . إننا صديقان قديمان إذا كانت ذاكرتك كذاكرتي. . هل تذكرين هذا الوجه الدميم الذي كنت لا أخجل أن ألقاك به كل صباح في شارع درب الجماميز وأنت ذاهبة إلى المدرسة؟)