معاداته. وكان في مناقشاته في الديوان لا يتردد أحياناً أن يهدد الحكام باسم الشعب إذا هم عمدوا إلى ما يسئ إليه أو يضر بمصلحته، فقد وقف مرة يناقش في ضرورة إرسال حملة حربية لإخضاع بعض الأمراء الخارجين في الصعيد. وكان رأيه أن تلك الحملات الحربية تضر بالناس وتعطل مصلحتهم، فلم يتردد في آخر خطبته القوية أن يصيح قائلاً:(والله لن نسمح أن يسافر أحد وإن سافرت الحملة فلن يحدث خير أبداً) ولما توفى الشيخ الحفني حل محله في زعامة النقد واعظ آخر وهو ابن النقيب السيد علي بن موسى الحسيني المقدسي، وعرف بابن النقيب لأن جدوده كانوا نقباء الأشراف في بيت المقدس. وكان واسع العلم يلقى دروساً في المسجد الحسيني في التفسير والفقه والحديث. وكان فوق ذلك كتاباً وأديباً حسن الأسلوب، وزاهداً لا يضن بشيء يملكه على سائليه.
ولهذا كانت له مكانة عظيمة في قلوب الناس. وكان فوق كل هذا فارساً ماهراً في فنون الحرب واستعمال السلاح واللعب بالرماح، فكان يجمع كل صفات النساك المحاربين الذين ينهجون نهج القاضي عيسى الهكاري الذي كان معاصراً لصلاح الدين الأيوبي واشترك معه في محاربة الصليبين.
وكان أهل مصر يعرفونه بالمحدث، ومع أنه كان محبوباً عند الأمراء ورجال الدولة لم يمتنع عن نقد ما كان يراه فيهم وفي أحكامهم من العيوب، وكان نقده أحياناً يبلغ حد المرارة والعنف، ولكن صدر هؤلاء الحكام لم يضق به، ولم يحدث له من وراء نقده أي ضرر. مع أنه ذهب مرة إلى القسطنطينية حوالي عام ١٧٦٣ للميلاد فلم يسمح له بالبقاء طويلاً فيها لما عرف عنه من الصراحة في النقد، واضطر إلى العودة إلى مصر. وكان الأمير محمد بك أبو الذهب يرحب به ويوسع له في مجلسه مع ما يلقي منه من النقد، وكان يقابل نقده بالإحسان فوق التسامح، ومن ذلك أنه سأله مرة عن حاله، وكيف وجد عاصمة الخلافة في استانبول عند زيارته لها، فكان جوابه على ذلك قوله:(لم يبق باستانبول خير ولا بمصر كذلك خير، فلا يكرم بهما الأشرار الخلق) فلم يغضب الأمير من رده بل أرسل إليه بعد انصرافه من مجلسه هدية قدرها مائة ألف نصف فضة ليقضي بها ديونه ولينفق منها على الفقراء كعادته.
وقد عاصر هذا الواعظ الكبير شيخ آخر جليل كان ينهج مثل نهجه مع شيء من الاعتدال،