للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الأدب العربي بلغ في عهد الجاهلية والبداوة والعزلة مبلغاً من الرقي أعلى كثيراً من مبلغ الأدب الإنجليزي قبل أن يتصل اتصالاً وثيقاً بثقافات الأمم الأخرى وآدابها

ونهضة العرب بظهور الإسلام تماثل نهضة الإنجليز في عصر اليزابيث، بوصول النهضة الأوربية إلى إنجلترا، واتجاه نظر الإنجليز إلى ما وراء البحر، ففي كل من هذين العصرين بدأت الأمة تخرج من محيط جزيرتها وتشب عن طوق عزلتها، وتتصل بالعالم وتصطنع حضارته، وتبني لنفسها إمبراطورية مترامية الأطراف، وارتقى أدبها من جراء ذلك ارتقاء عظيماً، ورقت ديباجته ودخل في طوره الفني، طور الإنشاء المحكّم والمجهود الأدبي المتصل، وانتشرت كلتا اللغتين في بقاع الأرض وافتتحت آدابها كثيراً من الأمم: فاللسان العربي الذي لم يكن يتجاوز حدود الجزيرة في الجاهلية، صار يتكلم من تخوم الصين إلى المحيط الأطلسي، وأثر في لغات وأزال غيرها وحل محلها، واللغة الإنجليزية التي لم يكن يتكلمها إلا ملايين معدودة في عهد شكسبير أصبحت تتكلم وتدرس في مشارق الأرض ومغاربها، وأصبح أدبها عالمياً كما كان أدب العرب عالمياً على عهد عظمتهم

ولم تكن كل من الأمتين توطد أركان إمبراطوريتها حتى انسلخ عنها جانب من أملاكها ونما مستقلاً حتى طاولها في النفوذ والسلطان، وداناها في ازدهار العلوم والآداب: فكما انفصلت الأندلس عن الخلافة العربية، استقلت الولايات الأمريكية عن الإمبراطورية البريطانية، بيد أن البلاد الأصلية احتفظت بالزعامة الأدبية على طول المدى: فلم تنجب الأندلس من الأدباء من بذوا فحول العباسيين، ولا ظهر في أمريكا ولا غيرها من أنحاء الإمبراطورية البريطانية من دانى شكسبير وملتون، فلعل التراث الثقافي الحافل، والماضي التاريخي المؤثل من ضروريات ازدهار الأدب الأساسية، وذلك ما كان يعوز الأندلس الإسلامية، وما يعوز أمريكا الحديثة، فظلت كلتاهما تلتفتان إلى الوطن الأول في طلب النموذج والمنهاج والوحي

وكلا الأدبين العربي والإنجليزي تأثر إلى حد بعيد بالكتاب السماوي الذي تدين به أمته: فأثر القرآن في المجتمع العربي وتاريخ اللغة العربية وآدابها وثقافة آدابها وأساليبهم جسيم شامل، فقد كان منذ جاء مثلاً أعلى في البلاغة وثقافة قائمة بذاتها، والإنجيل منذ ترجم إلى الإنجليزية في عهد صلاح الديني كانت له اليد الطولى في تثبيت الأسلوب النثري

<<  <  ج:
ص:  >  >>