للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الأعراض عنه من جانب العرب من أكبر دواعي اختلاف الأدبين وتباعدهما.

وفي عهد الدولة والحضارة والثقافة، عهد الطور الفني للأدب حين يبلغ أوج رقيه، رضخ العرب للملكية المطلقة، والملكية تكف الشعب عن الحكم وتكف الأدب عن النقد والإصلاح وتلحق الأدباء بحاشيتها، فجاء الأدب العربي بلاطياً في جملته، يمتدح بمآثر الملوك ويصف مواكبهم ومظاهر عظمتهم، ويغفل الشعب وأحواله وآماله إلى حد بعيد، على حين اعتمد الأدب الإنجليزي في اكثر عصوره على استجلاب رضا الشعب، وتصوير أحواله ونشدان آماله، فامتلاء الأدب الإنجليزي بالنظرات النقدية والقصص الاجتماعية والبحوث السياسية، وحفل بتمجيد الحرية والديمقراطية واحترام الفردية والرأي العام، على حين امتلاء الأدب العربي بالمدائح والرسائل الديوانية، فمن أكبر مظاهر اختلاف الأدبين العربي والإنجليزي، صبغة الأخير الشعبية الفردية وصبغة الأول البلاطية الرسمية.

وهذا الانضواء تحت لواء الملكية أكسب الأدب العربي صفات وخصائص ظل الأدب الإنجليزي خلوا منها: فغلبت على الأدب العربي - الذي تعود الإغضاء والرضا بالكائن وعدم محاولة الإصلاح - نزعة المحافظة والتقليد، على حين سادت الأدب الإنجليزي روح التجديد، وتجدد على طول العصور لفظا وأسلوبا وموضوعا؛ وكان من دواعي تلك المحافظة أيضا اشتغال غير العرب بالأدب العربي، بل ظهورهم على العرب في جمال الصناعة الأدبية، وقدم من جراء ذلك كله الأسلوب على المعنى، وكان يعد أديباً من تمكن من أصول اللغة وأحكم إنشاء الجمل البليغة، لا من لطف حسه وأرهف شعوره، واتسعت نظرته وسمت فكرته في الحياة؛ وكان من أثر نزعة المحافظة والجمود التي سادت الأدب العربي أن جمدت أشكاله وموضوعاته، فلم تتطور أشكاله وتتميز وتتعدد، ولم تتجدد موضوعاته وتتكاثر وتتوالد، على حين كان تاريخ الأدب الإنجليزي تاريخ تجدد مستمر وإخصاب متزايد في هذه النواحي جميعا.

ولسير الأدب العربي في ركاب الأمراء، واعتماده على عطفهم دون عطف الجمهور، أهمل الأدب موضوعات كثيرة هي من صميم الفن ولباب الحياة، وهي هم الأديب المفكر المحس، كعبادة مفاتن الطبيعة والتفنن في عرضها، واستلهام حكم التاريخ والتأنق في وصفها، واستيحاء جلائل البطولة وتصوير روائعها، واستخلاص مواضع الفتنة والمتعة

<<  <  ج:
ص:  >  >>