ولن يشعل صاحبنا العاقل كهرباءه إلا ساعة تغيب الشمس وهي هنا في الأدب الساعة التي تذهب فيها دهشة الأديب من منتجات الأدب الغربي أو العربي القديم.
وهنا يدخل السبب الأخر الذي ذهب إليه الناقد الإنكليزي الثاني، فأن انبهار الأديب العربي بصور الأدب الغربي أو العربي القديم يبهت أمامه صور محيطه ويضعف ثقته فيه، فلا يزال هذا المحيط متردداً بين الغرب والشرق وبين الجديد والقديم وبين التقليد والرجعية وقد فقد شخصيته المستقلة القديمة التي تثير الكاتب إلى التغني بأمجادها، ولم يكتسب الشخصية الجديدة التي تثيره إلى الإشادة بقوتها، ولذلك كان طبيعياً أن يذهب الكتاب والشعراء إلى المحيطين البعيدين، الغربي والعربي القديم، لأن شخصيتهما أقوى وأتم.
وأظن القارئ أدرك الآن لماذا اندفع شعراء العصر الأول من الإسلام في الابتكار في الشعر لأن المحيط الجديد الذي خرج إليه العرب من الجزيرة كان عامراً مدهشاً وهكذا ذهب أبو نواس المشدوه بالمحيط الجديد يفاخر به ويتهكم على شعراء الجاهلية، أما ابن المعتز الذي ألف حياة النعيم الجديد إلى حد ما، فكانت أحسن نفحاته هي التي يستمد وحيها من الصحراء ومعانيها التي أصبحت غريبة عنه تثير استغرابه أكثر مما حوله، وأن كانت نضارة هذا المحيط الباقية حافزة له على عدم التخلي عنه تماماً كما صنع الذين جاءوا من بعده ممن ذبلت أمامهم زهرة المحيط الجديد وعاشوا في العهد المتأخر فرجعوا إلى تراث الجاهلية يقلدونه تقليداً فاضحاً لأن هذا الشعر الجاهلي أقوى شخصية وأسطع نوراً من أي شعر جاء بعده
ونعود إلى أدبائنا اليوم، فهم مهما غالوا في المكابرة لا يستطيعون إنكار زهدهم واستخفافهم بهذا المحيط الباهت الألوان الفقير إلى الأمجاد الباهرة، ولذلك فهم لن يبتكروا إلا يوم يؤمنون به، ولا يؤمنون به إلا متى ذهب أثر الدهشة التي يحدثها الأدب الغربي الجديد أو العربي القديم في أذهانهم، على أن ترافق هذا زيادة في سطوع المحيط.
هذه هي موانع الابتكار وهي قوية لا يستطيع الكاتب مهما كانت عبقريته التخلص منها
خير لأدباء هذا الجيل أن يكتفوا بأدب النقل ويجودوا فيه ويهيئوا المجال للجيل القادم فأن مجدهم لن يقوم إلا على النقل وهو مجد له خلوده.