ميادين الأدب الغربي) وتأخره عن الأدب الأمريكي الذي أصبح يخطو خطوات واسعة وينتج آثاراً مدهشة.
قال أولهم: أن الابتكار - وليد ما أسماه شعوراً بالاستغراب يأخذ على الكاتب أنفاسه ويدفعه في مجالي الإبداع، ومتى عجز المحيط عن إثارة مثل هذا الشعور في الكاتب إما لكثرة الصور السابقة المرسومة عنه أو لفقره خلا جو الأدب من المبتكرين
وقال الثاني: إن الأديب يبتكر يوم يثق بمحيطه ويؤمن به، ويعجز عن الابتكار إذا فقد هذه الثقة فلا يثير فيه العناية بدرسه وتصويره بلونه الخاص
وإني أرى أن المانع من الابتكار في الأدب العربي، مزيج من السببين.
ولقد يبدو غريباً لأول وهلة أن تكون الحالة واحدة في المحيط الإنكليزي الذي كثرت الصور عنه وفي المحيط العربي الحديث الذي لم ترسم له صورة صحيحة باهرة إلى الآن، ولكن هذا نتيجة فقدان الشعور بالاستغراب، أما في الأول فأحسب القارئ قد فهم سببه وهو كثرة الصور الباهرة التي رسمها لهذا المحيط أكابر الكتاب فلم نترك مجالاً للمزيد؛ وأما في الثاني فلأن هذا المحيط لا يمكن أن يثير الكاتب إلى الاهتمام به ما دام فكره مشدوهاً بأنوار أخرى بديعة تأتيه من بعبد.
أرجو أن يتصور القارئ نفسه مكان الأدب العربي اليوم: فهو إذا كان مجدداً لا يزال مسحوراً بصور الأدب الغربي العامرة وما فيها من عبقرية ونبوغ؛ وإذا كان من دعاة القديم فلا يزال مفتوناً بالصنعة الباهرة وقوة الاندفاع والحيوية التي يشهدها عند الجاحظ أو المتنبي مثلاً. أن هذه الصور تأخذ بلبه فتشغله عن المحيط الذي هو فيه وهو لا يزال محدقاً بها غير ملتفت إلى ما حوله ما دامت أضواؤها الخلابة تبهر عينه، وأني لأشعر أن هذا الكاتب المنصف لنفسه ولقارئه إذا حاول رسم صورة لشخص من الذين حوله يقعده عن المحاولة ما يراه من تصوير باهر لأساتذة كبار كموباسان ودكنز، فيقول في نفسه: خيراً أن أنقل هذه الصورة الغريبة للناس من أن أقحمهم على مجازفاتي في التصوير، ويقعد عن الابتكار.
ومثله هنا مثل العاقل لا يشعل سراجه ما دامت الشمس طالعة، فهو يكتفي بفتح باب النافذة فتضيء أشعتها المكان وليس في هذا عيب على كهرباء البيت ولا انتقاص لمخترعها