أكبر من مشاغل الشعب البريطاني أو الألماني أو الفرنسي. . ومع ذلك لا نرى هذه البلادة المخيفة والانصراف الموئس عن الجد.
وقصصت عليهم قصة فقلت:(إني بعد أن تخرجت من مدرسة المعلمين العليا وأصبحت مدرسا اتفق يوما أن كنت جالسا في مقهى بميدان قصر النيل - ميدان الإسماعيلية الآن - وكان معي كتاب (حديث المائدة) لويندل هولمز، وكنت أقرأ فيه حديث الشاعر على المائدة، فمر بي إنجليزي كان معلما لي في مدرسة المعلمين فخففت إليه وحييته، فقد كنت أحبه، فكان أول ما قاله لي:(أظن أنك لا تقرأ شيئا في هذه الأيام؟) فسألته عن سبب هذا الظن القبيح بي فقال: (ألست مدرساً وموظفاً ولك مرتب تتقاضاه في آخر كل شهر؟ فما حاجتك إلى القراءة؟) وكان يتهكم. ولو أني شئت لما عبأت بسوء رأيه هذا ولكنه شق على أن يتوهم أني ما كنت أقرأ إلا طلباً للشهادة ورغبة في الوظيفة، فرجعت إلى حيث كنت قاعدا وعدت إليه بالكتاب الذي كنت أقرأ فيه ودفعت به إليه وقلت له:(واسألني إذا شئت. . امتحني. . نعم فأني مستعد، فابتسم وقال: إنما كنت أمزح. . لأحثك على المواظبة على الاطلاع. . وأني لأعرف أنك تحب التحصيل للتحصيل، ففرحت بهذا جدا وعدت إلى مجلسي مسروراً مغتبطاً بحسن رأي أستاذي؛ وقد لقيته بعد ذلك بسنوات طويلات المدد في إنجلترا وكنت أهم بالعودة وأتزود من مكتبة هناك فقال لي: (أراك لا تزال تقرأ؟) قلت: (إن لنا مثلا يقول إن الزامر يموت وأصابعه تلعب. . صار الأمر عادة يا سيدي. . لا أستطيع أن أنام إلا إذا قرأت شيئا. . لا لأنام فان الكتب لا تنيمني، بل لأحلق في سماء الفكر وأرتفع لحظة عن هذه الأرض. .)
فاعتذر أحدهم بأن الدروس كثيرة وأنها مضنية، وهذا صحيح، فإنها أكثر مما ينبغي، ولكني قلت لهم: إن دروسنا كانت أقل وأفرع وكان أمرها أهون، ولكن الذي كنا نقرأه من تلقاء أنفسنا، بلا حث أو حض، كان أضعاف أضعاف ما تتبرمون منه. . لقد كان أحدنا يقرأ في الليلة الواحدة كتابا. . من منكم يعرف أن لداروين كتابا اسمه أصل الأنواع؟. . أو من منكم يعرف اسم داروين؟. . لقد قرأت هذا الكتاب الجاف في صدر أيامي. . وقرأته بلا معين وحطمت رأسي به. . وما أكثر ما حطمت رأسي بأمثاله. . الحقيقة أنكم قوم ولا مؤاخذة فارغون. . وأنتم الذين سيكون في أيديكم زمام هذا البلد المسكين!)