للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كانوا يهزلون كما يهزل بعض الناشئين في أيامنا، ويتبلغون بالقليل من زاد الاطلاع كما يتبلغ أدباء السندوتش بيننا: نسينا أولئك الستين أو السبعين لأن الزمان قد نسيهم وعفى على أسمائهم وآثارهم، ولكنهم كانوا في أيامهم يحجبون الأفق ويشبهون الشخوص على الأنظار ويبعثون اليأس ويثبطون الرجاء. فليس من البعيد أن يكون لهم نظراء يلبسون الأمر علينا، وأن يكون للستة أو السبعة نظراء ينقشع عنهم الغبار بعد عشرة أو عشرتين من السنين، وإن جاز أن يخيب الظن كما يخيب بعض الظنون

وفي العالم كله نوازع شتى تنزع بالناس الآن إلى الأدب الرخيص أو أدب السندوتش أو أدب الفاقة والعجلة، وقلما تختلف البلاد في هذه النوازع على اختلاف النظم الاجتماعية والمذاهب الحكومية التي تساس بها الشعوب في العصر الحديث

ففي البلاد الديمقراطية يكثر القارئون بين سواد الشعب ويتوخى الناشرون الرواج فيؤثرون ما هو أشيع وأيسر على ما هو أندر وأنفع؛ ويطغى الأدباء الهازلون على أصحاب الجد والأمانة، فلا تتساوى الرغبة في الأدب النفيس والرغبة في الأدب الخسيس

وفي البلاد الفاشية يتحكم المستبدون في أذواق الكتاب والشعراء فلا يذعن لعسفهم واستبدادهم إلا طائفة من المرتزقة المتزلفين الذين لا يقدرون على الأدب القيم؛ ولو أبيح لهم أن يطرقوه ويتوسعوا فيه، فهم أحرى أن يعجزوا عنه وهم مكبوحون مسوقون بالرهبة والإغراء

وفي البلاد الاشتراكية يعتقد الحكام أن الآداب هي لسان حال الطبقات، وأن الأدب الذي يليق بهم هو أدب الطبقة السفلى ومن إليها من أشباه العامة والمسخرين. وحسبك من أدب يقوم على أذواق هؤلاء، ويجري مع هذه الأهواء

ولا ننس عصر الآلات وما يجرف به الناس من سرعة جامحة ونزوة جامحة. ولا ننس (الحرية الشخصية) وما سولته للصغار والأوشاب من غرور المساواة وتمرد المباهاة، فقد بدأت باعتبار الرجل نفسه نداً للسراة والوجهاء ولو كان في الصعاليك والفقراء، وانتهت باعتبار الرجل نفسه نداً للعلماء والأذكياء ولو كان من الجهلاء والأغبياء، فضعف الخجل من التقصير، وضعف الطموح إلى مساواة الأعلين، وأصبح العي الفهُّ لا يداري عيه ولا فهاهته لأنه صاحب (حق) في العي والفهاهة، وصاحب دعوة في المساواة لا يعدم لها

<<  <  ج:
ص:  >  >>