تلك النوازع في بلاد العالم كله على اختلاف النظم الاجتماعية والمذاهب الحكومية خليفة أن تنصر أدب الفاقة والعجلة، وتنحى على أدب اليسار والوقار. ولكننا نرجع إلى العصور الغابرة فلا يصادفنا عصر منها إلا كانت فيه نوازع كهذه النوازع في نصرة الأدب المبذول وخذلان الأديب الكريم العزيز. وقريبا من عصرنا هذا كان تمليق الأغنياء والخضوع للجامدين والولع بمحاكاة الأقدمين وضعف الثقة والعجز عن حرية التفكير والإبداع نوازع أخرى لا تقل في أثرها الوخيم عما أحصيناه من مساوئ عصرنا، فلا نفاذ في عصور الزمن لبواعث الضعف ولا نفاذ فيها لبواعث القوة؛ وشأن العقول في ذلك شأن الأبدان بين دواعي السقم ودواعي الصحة، لا ينفرد عصر بالأمراض كلها ولا ينفرد عصر بالعافية كلها، ولا يزال الحال في تعادل ونقص وتعويض ما دامت الحياة حيه تعطي وتأخذ من دنياها بمقدار
على أننا لا نخادع أنفسنا ولا نستر الفوارق التي بيننا وبين غيرنا. ففي إنجلترا مثلا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم برتراند رسل وهو يتهد في أعوص الموضوعات؛ وفي فرنسا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم رومان رولان وبرجسون في المثل العليا وما وراء الطبيعة؛ وفي ألمانيا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم هوسرل وهيدجر في معارض لا يعنى بها فيما أحسب عشرة من قرائنا المصريين؛ وفي إيطاليا يكتب الهازلون ويكتب إلى جانبهم فريرو وجنتلي وجروشي في معضلات الاجتماع والتاريخ. وإنما مثلت بالفلسفة وحدها لأن موضوعاتها أعسر، وقراءها أندر، وعقول الباحثين فيها أكبر وأقدر؛ وهي بعد عنوان لما وراءها من أدب الجد والأمانة والرصانة والترفع عن القشور.
أما في مصر فأدب الجد والأمانة والرصانة والترفع عن القشور إنما يقوم على كواهل أصحابه ولا يقوم على كواهل القراء؛ وكل ما نملك من عزاء أن الجد والهزل في هذا الباب يتساويان، فليس بيننا كاتب هازل يعيش بهزله، وليس بيننا كاتب جاد يعيش بجده؛ وسبيل العزاء في هذا أن الهزل والجد يعيشان على نمط واحد، فلا يجوز الهزل حتى يطمس معالم الجد، وأن شاء أن يجور
كذلك يتعاقب أدباء الكهول وأدباء الشباب في أوربا، ولهم في التعاقب معنى يتمثل في