للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والهدى، ولم يعرف التاريخ مذهبا داجي فيه أصحابه مثلما عرف من التصوف، فقد دخل فيه المخلص والزنديق والنشيط والبليد، فالتصوف أساسه الزهد والتظاهر بالفقر وكراهية الدنيا، وكم من أناس حبب لهم العيش الرخاء والتواني في السعي، فأووا إلى هذه المذاهب التي تعلي من قيمتهم وتظاهروا بالتصوف، وقديما كان الناس يتسابقون إلى إيواء الصوفي وإطعامه، والمبالغة في إكرامه، وهكذا كانوا ينتقلون في عيشهم من بادرة إلى بادرة معتمدين على الظاهرة الصوفية، وليس في قلوبهم إلا الغل والنفاق، ولابن تيميه فتوى جليلة في الصوفية وحال أقسامهم، فقد قال بعد أن شرح موضع الصوفية من العلماء: (والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم، ففيهم السابق السابق بحسب اجتهاده، وفيهم من قد يجتهد فيخطيء، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، وقد انتسبت إليهم طائفة من صوفية الحقائق الذين اعتنقوا مذهب الصوفية بإخلاص قلب، ووفاء سريرة، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم ممن لا يغنون فتيلا، والصوفية كانوا ولم يزالوا من جملة الزهاد، ولكنهم انفردوا عن الزهاد بصفات وأحوال، واتسموا بسمات خاصة بهم، والتصوف طريقة بدؤها الزهد الكلي كما قدمنا في كل متاع الدنيا؛ ثم ترخص المنتسبون إليها - لما حرموا من ملذة الدنيا فجعل البعض ذلك لهم حيلة - بالسماع والرقص، فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب.

ويبدو أن هذا الضرب من التحيل لم يبخس حق قيمة المتصوفين الحقيقيين، وقد قال القشيري في رسالة: (لم يكن عصر في مدة الإسلام وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ وتواضعوا له تباركوا به، فقد أذعن الإمام الشافعي لشيبان الراعي حين طلب الإمام أحمد بن حنبل أن يسأله عمن نسي صلاة لا يدري أي صلاة هي؟ وإذعان أحمد لشيبان كذلك حين قال لشيبان (هذا رجل غفل عن الله فجزاؤه أن يؤدب). وكذلك إذعان الإمام أحمد لأبي حمزة البغدادي واعتقاده فيه حين كان يرسل إليه دقائق المسائل ويقول: ما تقول في هذا يا صوفي؟ وكان يروى أن الإمام أحمد كان يحث ابنه على الاجتماع بصوفية زمانه، ويقول انهم بلغوا في الإخلاص مقاما لم يبلغه

وقد أوى منهم إلى ضروب من الكرامات زعموا أنها خاصة لا تصدر إلا عنهم، يريدون

<<  <  ج:
ص:  >  >>