للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

موسيقية متنافرة، فإذا بها حفلة من حفلات الزار التي تعودت نساء القاهرة إحياءها. وكانت الحفلة تقام في أحد المنازل المجاورة لتلك القبور. فحمل صديقي الكلب وانطلق إلى هناك حيث أتيح له أن يشاهد أكثر من عشرين سيدة وهن يرقصن على نغمات الموسيقى بجنون وحشي إلى حد أن كن يتصادمن ويتلاحمن، وكان البعض منهن يمزقن الأثواب. أو يمتطين ظهور الخراف البيضاء المصبوغة بالدم. وأسر إلى صديقي بأنه أحس بالراحة ساعتئذ ولم يعز هذه الراحة إلى أية صفة مجهولة، بل ببعد هؤلاء المريضات عن الإنسانية، وفي عزلتهن هذه ما يشفي عواطفهن الهستيرية ويبرئهن من النضال الدنيوي الذي وقعن فيه.

وبينما كنا نبحث ونتجادل في البواعث الحقيقية لحفلات الزار، ألفينا أنفسنا أمام أبنية التكية الملصقة بحبل المقطم، وبعد أن ارتقينا الدرج واجتزنا حدائق التكية أحسست بنشوة وانتعاش، كالنشوة التي تحدثها الريح في يوم ساكن، ولقد ازداد سرورنا عندما اجتمعنا بطائفة من الزوار الأجانب الذين أتوا خصيصا لشهود حفلات الذكر الموسيقي، كذلك رأينا فريقا من النساء وهن واقفات بخشوع وشاخصات بأبصارهن إلى الأشجار الباسقة التي تكاد تشق أجواز الفضاء.

أما بيوت الدراويش ومساكنهم فتقع في الجهة اليسرى من الحديقة، وهي مساكن نظيفة، غاية في البساطة ولكنها فاخرة الرياش، تزينها لوحات بها رسوم رؤساء الطائفة السابقين. وتعلو هذه الإطارات - بلطة - وهي رمز الدراويش. ويزور التكية عادة جم غفير من أعيان الأجانب وبعض أمراء الشرق، ولقد شاهدت الكثير من رسومهم الفوتوغرافية وتوقيعاتهم لدى شيخ التكية. ويقع بالجهة اليمنى من الفناء الداخلي مطبخ ضخم البناء، وما كدنا نصل إليه حتى شممت رائحة الشواء ورائحة الطهي الزكية، وسال اللعاب في فمي وتحركت شهيتي فتقدمت نحو المطبخ ورأيت الطاهي يشوي شرائح اللحم الضأن. وعزم علينا الطاهي بأن نتذوق طعامه، فلم أجد مانعا من إجابة طلبه وأخذت ألتهم قطعة اللحم بشهية.

تبلغ مساحة مطبخ البكتاشية نحو مائة متر مربع بحيث تسع إعداد طعام لأكثر من مائتي شخص تقريبا، ولقد أخبرني الطاهي أن للزمن تقلباته وانهم الآن يتوخون الاقتصاد في مأكلهم مع انهم من سنوات خلت كانوا يتمتعون بأنواع المآكل الشهية، وأنهم كانوا يولمون

<<  <  ج:
ص:  >  >>