الشيوخ وحرفهم حين يسيطرون على بيوت الله، يجمعون شتى الطيبات، وألوان الملذات، فتلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة؛ وعن أناس يبيتون في العراء حفاة عراة، ويتضورون جوعاً، لا يجدون مأوى، ولا يجدون كساء ولا طعاماً، ليت هذا الشيخ الغفل ينظر بعين القس الورع إلى ما يقاسيه الفقراء وذوو الحاجة فيخفف من غلوائه، وينزع عنه بعض حماقاته!. .
وفي الحق لم يكن توماس ليستشعر في نفسه الأسى والألم لما يقاسيه بعض الناس من فاقة وعوز، ولم تكن في قلبه الرحمة والشفقة؛ ولكنه كان يحس ألم الحقد والحسد يتنزى في صدره كلما وقعت عينيه على ما أنتثر هنا وهناك في نواحي الدير منذ هبط الكاهن الأعظم جون.
لقد كان توماس على غير ما كان عليه رفاقه: كان رجلا فيه الكآبة والعبوس، فكان الرهبان والقسس يعبدون الله مخلصين وفي قلوب الطرب والسرور. وفي قلبه هو التجهم والحقد؛ في أرواحهم اللذة والقناعة، وفي روحه هو الجفاف والغلظة؛ وفي أنفسهم الرضا والاطمئنان، وفي نفسه التقلقل والاضطراب. ثم هم يرون في أرض الله مسرحاً للعين والقلب والنفس جميعاً، وهو في منأى عنهم قد شغلته فكرة تضطرب في رأسه.
واعتاد الأب توماس أن يدلف إلى المعبد كل مساء وفي يده مصباحه، وقد أرخى الليل أستاره، ونامت الحياة في كل حي، يتهجد ويتعبد، ساجداً راكعاً، قارئاً مرتلا؛ يناجي ربه في هدأة الليل وسكونه، يسأله ويستغفره، فما يبرح حتى تخونه قوته، ويهن عزمه، وتضطرب مفاصله، من أثر الاندفاع والبرد في وقت معاً؛ فيرتد إلى حجرته يتكفا في طريقه. .
وانطلق - ذات مرة - إلى حيث ينطلق كل ليلة، وقد تأججت في نفسه ثورة الحقد على رئيسه جياشة مضطرمة، تكاد تعصف بإيمانه وعقيدته. . انطلق والبرد يزلزل أعصابه ويتغلغل في أوصاله وهو في طريقه لا يتململ ولا يعبأ. . وسجد في محرابه. . . غير أن صوتاً موسيقياً عذباً هادئاً رن في مسمعيه فنزعه من أخيلته، فأنصت يتسمع. . . ثم استوى جالساً، وحدق فيما حوله يريد أن يستشف أمراً، وبدت عليه الدهشة حين رأى ضوءاً خافتاً يضطرب في أرجاء الدير يزداد سطوعه رويداً رويداً، وتعلو معه نغمات الموسيقى فتزداد حلاوة ووضوحاً.