إنني قدتك هذا المساء إلى هذه النزهة، فراراً من لجوئي إلى بيتي، لأنني أتألم كثيراً من العزلة التي تهيمن على المنزل، وما عسى يجديني هذا؟ إنني أكلمك وأنت تسمعني، ونحن وحدنا جنباً إلى جنب، ولكننا منعزلان. . . .
يقول الكتاب المقدس: سعداء هم مساكين الأرواح، إن عندهم وهم السعادة، إنهم لا يشعرون بشقائنا المنعزل، ولا يبهتون مثلي في الحياة، لا يعرفون من اللمس إلا لمس المرافق، ولا يعلمون من الفرح إلا قناعتهم الأنانية بالفهم وبالنظر، وبالتنبؤ وبالتألم دون نهاية من إدراك عزلتنا الأبدية.
إنك لتراني مجنوناً! أليس كذلك؟
إنني بعد ما أحسست عزلة كياني، خيل إلي أنني أهوى يوماً فيوماً في مهوى مظلم لم يقع طرفي على حافة له، ولم أدرك له نهاية، وربما كان بلا غاية. فأفلت إليه وحدي دون رفيق معي ولا حولي، ولا سالكٍ طريقي المظلمة. هذا المهوى هو الحياة، وخلال ذلك كنت أسمع صخباً عالياً وصيحات وأصواتا فكنت أدنو من هذا الصخب المضطرب متسللا، ولكني لم أعلم علم الحق من أين مأتاه، وما ألفيت إنساناً، وما عثرت على يد أخرى ترتفع في هذا الظلام المسدل علي.
هنالك رجال مثلنا أحسوا هذا الألم الممض وتنبئوا به، منهم (موسى) الصائح:
(من جاء؛ ومن دعاني؟ لا أحد!
أنا وحدي! وهذه الساعة التي تدق
يا للعزلة! يا للشقاء!)
ولكن العزلة - عنده - ما كانت إلا شكاً طارقاً، ولم تكن حقيقة ثابتة كما هي عندي. أنه كان شاعراً، يؤنس الحياة بأخيلته وأحلامه. إنه لم يكن وحده أبداً. ولكني أراني وحدي وهنالك (غوستاف فلوبير) أحد كبار أبناء الشقاء في هذا الوجود، لأنه كان أحد عباقرته، كتب إلى صديقة له هذه العبارة اليائسة (نحن كلنا في صحراء؛ لا يفهم أحداً منا أحداً) بلى! لا يفهم أحد منا أحداً، فمهما فكروا، ومهما قالوا وجربوا فالأرض هل تعلم ما يجري على مسارح هذه الكواكب المنتشرة كذرة نارية في هذا الفضاء نرى منها على البعد صفاء بعضها، والأكثر عدداً منها ضائع في اللانهاية، وقد يؤلف القريب منها كلا واحدا كما هو