ولب موضوع الكتاب قد تضمنه البابان الثالث والرابع، لأن المؤلف يبحث فيهما عن الأحاديث والأخبار المتعلقة برجال القبائل في بئر السبع، ويتكلم عن الحروب التي وقعت بينهم وبين القبائل القريبة منهم والنائية عنهم وقد أبان المؤلف في هذين البابين عن مقدرة فائقة على تنظيم المعلومات الغزيرة التي جمعها في مثابرة ودأب من أفراد القبائل الضاربة هناك، ففتح لنا بذلك عالماً عظيم الشأن كنا نجهله مع قربنا منه واتصالنا به، وإذا كان المستشرقون قد جاءوا إلينا بأخبار عن حياة القبائل في بئر السبع فإن كل ما ذكره منها لا يكاد يذكر بالنسبة إلى ذلك الفيض الدافق من المعلومات التي قدمها عارف بك العارف، وذلك يرجع إلى أنه من أهل البلاد وحاكم على البدو
ويجد القارئ في هذين البابين كثيراً عما ورد في المصادر العربية عن أيام العرب في الجأهلية، كما يجد فيهما صورة مصغرة لحياة بني إسرائيل الفطرية في عصر القضاة قبل أن يأخذوا نصيبهم من الحضارة في أرض كنعان.
ونود أن نلاحظ أن كثيراً مما ذكره رجال البدو لمؤلفنا بعيد عن الحقيقة التاريخية وليس إلا محض خيال لأنهم لم يدونوا شيئاً ولم يكتبوا حوادثهم ولا قيدوا أنسابهم وإنما هي روايات ينسجها خيالهم وفقاً لمصلحتهم وتبعاً لأطماعهم
فما يقولونه من أن أغلبهم أو أن جميعهم وعلى بكرة أبيهم إنما نزحوا إلى هذه الديار من الجزيرة العربية ليس إلا نظرية ساذجة لا يقبلها عقل الباحث السليم، فإن مما لا شك فيه أن عدداً (عظيما) من هذه البطون ليس إلا سلالة تلك القبائل التي عمرت تلك الديار منذ أزمان بعيدة طويلة فبينهم بلا شك بقية تلك القبائل التي كانت في هذه المنطقة قبل الفتح الإسرائيلي مثل العمالقة والمدنينين والادوميين، ثم منهم بقية البطون الإسرائيلية مثل بني شمعون ودان ويهوذا، وكذلك لا ننسى وجود أرهاط من الأنباط في هذه النواحي القريبة من شبه جزيرة طور سينا، ولا ننسى كذلك أن هناك أفخاذاً من قبائل يمنية قديمة وصلت من أقصى بلدان الجزيرة إلى هذه الأماكن منذ زمن قديم
ولا شك أن العرب أخذوا يتسربون إلى هذه المناطق قبل الإسلام بعدة قرون واستوطنوا بعض أماكنها كما استوطنوا النواحي الأخرى من صحراء سوريا وتخوم بلاد العراق والشام.