تجري بالسؤال الطبيعي:(فين؟). وكانت الفتاة التي أطلقت هذه الصيحة تشير إلى سيارة تخطف بعيداً عنا، ولا يكاد يبدو منها شيء لكثرة الغبار الثائر وراءها. وسكنت الضجة أخيراً فقالت إحدى الفتيات:(هل سمعتم أغنية الملك فاروق؟) فقلنا جميعاً - أعني الرجال -: (لا) - بلسان واحد. فقالت:(أغنية جميلة) قلنا: (هات أسمعينا) فهزت كتفها، وأولتنا ظهرها، وأخفت وجهها في حجر زميلة لها. فسأل أحدنا:(هل فيها شيء يدعو إلى الحياء؟) فقالت بنته: (لا. إنما خجلها من أن تغني) قلنا: (إذن أسمعونا يا ناس)
فأبين أن يسمعننا شيئاً، وتركننا متلهفين على السماع الذي حرمناه. ولم أطق أنا صبراً فعدمت إلى الحيلة، وغيرت الموضوع تم ملت على جارتي وسألتها - فيما بيننا -: (هل تعرفين هذه الأغنية؟) فهزت رأسها أن نعم، فسألتها:(ماذا فيها؟) قالت: (لا شيء في الحقيقة وهي شائعة جداً)
قلت:(اهمسي بها في أذني) ففعلت وإذا بالأغنية كما يأتي:
(مصر فرحانَه بفاروقها ... مصر فرحانة بحبيبها
كل بنت تستمنى ... لو جلالته يكون خطيبها)
ففهمت لماذا خجلت الفتيات أن يغنينها وإن كان لفظها لا يراد به المعنى الحرفي ولا يدل على أكثر من الحب العام الذي فاز به هذا الملك الشاب السعيد الحظ. وخطر لي وأنا جالس أفكر في هذه الأغنية الشائعة أن ملكا مثله يسعه أن يثق بحب الشعب له وأن يطمئن إلى دوام هذا الحب، فإن المرأة تصنع بنا معاشر الرجال المغرورين ما تشاء
وقلت لنفسي وأنا أرمي بعيني هذه الصحراء المهولة التي يضيئها القمر: إنه ليس في وسع رئيس جمهورية أن يفوز بمثل هذا الحب، ولا يعقل أن يكون رئيس جمهورية شاباً في مثل سن الملك فاروق، وعلى أنه ماذا صنع الجمهوريون حين ألغوا الملكية واعتاضوا منها الجمهورية؟ لم يصنعوا شيئاً سوى أنهم قلدوا الملكية، واحتفظوا بكل مظاهرها، وحرموا الشعوب إمكان الحب لرؤساء دولهم، واتخاذ هؤلاء الرؤساء رموزاً لأوطانهم وأعلاماً عليها، وعناوين لها، وأفقدوها معنى قومياً تتعلق الشعوب به. والجمهوريون يشعرون بذلك ويفطنون إلى الزيف الذي تكلفوه، ولذلك يحفون رئيس الجمهورية بكل ما كان يحف بالملوك من المظاهر والمراسم. فله قصره، وحرسه، وحاشيته، وإنعاماته - كائنة ما كانت