السواد الفاحم أتلفت مساحة منه غير صغيرة، ونبت فيها شعرات قصار ملس كأنها الحشائش الفطرية في حرجة كثيفة حجبت الأشجار الباسقة عن أرضها ضوء الشمس. وهو فوق ذلك أجرد، فلا شارب ولا لحية له، غليظ اليدين والقدمين واسع الشدقين بارز الأسنان إذا مشى فهو الهرة إذ تتلبث؛ وإذا نظر فكأنه يريد أن ينفذ ببصره إلى ما في سريرتك. وما تنم حدة نظراته وجمودها، إلا عن شدة ما قاسى من الزمن ومن الطبيعة ومن الناس.
مررت بهذا المخلوق محسوراً على أملي الذي سوف لا يتجدد بعد اليوم، وعلى البقعة الحرام يستبيحها هذا القزم الأسود العجيب. فكنت أراه كل صباح ثم أخلفه من ورائي في رواحي إلى الحقل وفي غدوتي إلى الدار وما رأيته يوماً بعيداً عن ظل الصفصافة أو غير ناظر إلى صفحة الغدير. وقد ألف المكان وألفه نظري، فكان يخيل إلي أن الصفصافة والغدير قد أصبحا له، على حد قول هوجو، بمثابة البيضة والعش والسكن والوطن والكون
ولقد هممت مرات عديدة بأن أسأل ما شأنه، وما حاله، وما الذي جعله يختار قريتنا دون القرى الأخرى. وكنت أقمع هذه الرغبة وأسلط إرادتي على حب الاستطلاع في نفسي. ولكني هزمت ذات يوم فوقفت إزاءه وأطلت النظر فيه، فأخذ يخالسني النظر وحول عينيه نحوي وما تزالان تنظران في الأرض وتتحركان حركة عصبية شديدة، حتى ليخيل إليك أن هذا الإنسان ما يظن فيك إلا أنك وحش مقدس يريد الانقضاض على الفريسة المسكينة الوادعة. ولم يكن في هذا غير مصيب. فقد هممت أولاً أن أقرئه السلام، ثم ترددت وقام في نفسي أن أجره من أذنه الغليظ لأريه الطريق المسلم إلى القرية الأخرى. ولكن لم كل هذا التعب؟ فهو جالس على حافة الغدير مستجمع كأنه النسر الأجرب العجوز وقدمي حاضرة. فركلة واحدة تسلم به إلى الغدير يتولاه برحمته الأبدية. ولأي شيء خلقت الرجل وفيها القدم، ولأي شيء زودت بهذه العضلات القوية، إن لم يكن لمثل هذا الظرف ولمثل هذا المخلوق الأشوه. فإن الطبيعة ما أبدعت من شيء إلا وأبدعت معه طريقة التخلص منه. وقد قام في نفسي أن الطبيعة لم تدربنا على العدو والقفز، والركل واللكز، والطفر والوكز، في طفولتنا إلا لتكون عدتنا لمثل هذه الساعة، وفي مثل هذا الظرف، ولمثل هذا القرد الأزعر العجيب
ولقد قويت في نفسي هذه الشهوة وخيل إليّ أن الأمر سهل هين والطريق مقفر والحقول