واليوم يغدو اختراع مركوني في المواصلات اللاسلكية وتبادل التموجات الأثيرية أعظم ما عرف العصر؛ ولم يحدث أي اختراع آخر مثل ما أحدث اختراع مركوني من ثورة في نظم الحياة البشرية، ولم يقرب مثل ما قرب بين أبعد أطراف العالم. وإذا كنا نستطيع اليوم في لمح البصر أن نتصل بأوربا أمريكا واستراليا ونحن جلوس في منازلنا، وأن نصغي إلى آخر الأنباء العالمية، وأن نسمع الموسيقى والغناء على بعد آلاف الأميال؛ وإذا كانت السفن في عرض المحيط، والطيارات في جوف الفضاء، تستطيع الاتصال والاستغاثة عند اللزوم، فالفضل في ذلك كله يرجع إلى عبقرية جوجليلمو مركوني
ولم ينبغ في عصرنا من المخترعين نبوغ مركوني في ميدانه سوى رجل واحد هو أديسون المخترع الأمريكي؛ على أن مركوني يتفوق على أديسون من الناحية العلمية، ويمتاز بسعة آفاقه التي لم يحد منها بحر ولا جبل ولا هواء. وقد عاش مركوني طول حياته في جو من الهدوء والثقة، يحمله النجاح إلى التماس النجاح؛ وكان مثل العلامة المتواضع يرتفع بالفكرة الإنسانية إلى ذروتها.
حرب الميكروبات
إذا كان عصرنا عصر المعجزات العلمية، فهو أيضاً عصر المهلكات. ولم يسبق في التاريخ أن سخر العلم لاختراع المهلكات البشرية كما سخر في عصرنا؛ فالأمم العظيمة كلها تسخر قوى العلم لاختراع الأسلحة الجديدة وصقل الآلات المهلكة، وتحسين الأسلحة الجوية والبحرية، وتحويل الحرب إلى عملية ميكانيكية مخربة؛ وأفظع ما في هذا النشاط المخرب هو الحرب الكيماوية التي يوجه اليوم لها نشاط العلم والاختراع؛ فالعلماء الذين يعتبر واجبهم المقدس أن يعملوا لخير الإنسانية ورفاهتها وصون الحياة البشرية من الأدواء والأمراض، يعملون اليوم لإفناء المجتمع الإنساني، وسحق المدنية، وقتل الإنسان بواسطة الغاز الخانق، والسوائل الملتهبة والجراثيم (الميكروبات) الفتاكة؛ وتشتغل المعامل الكيماوية في معظم الأمم الكبرى اليوم باختراع هذه المهلكات والعمل على مضاعفة قواها المهلكة؛ وقد كانت ألمانيا أول دولة لجأت إلى هذه الوسيلة المروعة، واستعملتها في الحرب الكبرى، فاستعملت الغاز الخانق وأنواعاً أخرى من الغازات الخطرة؛ وكانت هذه مفاجأة مروعة