درج حتى كانت سنة ١٩٣٠ فخطر لي أن أنشرها، فدفعت بها إلى المطبعة، فاتفق بعد أن طبعنا نحو نصفها أن ضاعت بعض الأصول وكنت لطول العهد قد نسيت موضوعها وأسماء أشخاصها فحرت ماذا أصنع؛ ثم لم أر بداً من المضي في الطبع فسددت النقص ووجهت الرواية فيما بقي منها توجيهاً جديداً. ونشرت الرواية. وبعد شهور تلقيت نسخة من مجلة (الحديث) التي تصدر في حلب وإذا فيها فصل يقول فيه كاتبه إني سرقت فصلا من رواية ابن الطبيعة. فدهشت ولي العذر. واذكروا أني أنا مترجم ابن الطبيعة وناقلها إلى العربية، وأن أربعة آلاف نسخة نشرت منها في العالم العربي، وإني أكون أحمق الحمقى إذا سرقت من هذه الرواية على الخصوص. فبحثت عن ابن الطبيعة وراجعتها وإذا بالتهمة صحيحة لا شك في ذلك، بل هي أصح مما قال الناقد الفاضل. فقد اتضح لي أن أربع أو خمس صفحات منقولة بالحرف الواحد من ابن الطبيعة في روايتي (إبراهيم الكاتب). أربع أو خمس صفحات سال بها القلم وأنا أحسب أن هذا كلامي. حرف العطف هنا هو حرفه هناك؛ أول السطر في إحدى الروايتين هو أوله في الرواية الأخرى. . . لا اختلاف على الإطلاق في واو أو فاء أو اسم إشارة أو ضمير مذكر أو مؤنث. . . الصفحات هنا هي بعينها هناك بلا أدنى فرق. ومن الذي يصدقني إذا قلت إن رواية ابن الطبيعة لم تكن أمامي ولا في بيتي وأن أكتب روايتي؟ من الذي يمكن أن يصدقني حين أؤكد له أني لم أر رواية ابن الطبيعة مذ فرغت من ترجمتها، وأني لو كنت أريد اقتباس شيء من معانيها أو مواقفها لما عجزت عن صب ذلك في عبارات أخرى؟ لهذا سكت ولم أقل شيئا وتركت الناقد وغيره يظنون ما يشاءون فما لي حيلة. ولكن الواقع مع ذلك هو أن صفحات أربعاً أو خمساً من رواية ابن الطبيعة علقت بذاكرتي - وأنا لا أدري - لعمق الأثر الذي تركته هذه الرواية في نفسي فجرى بها القلم وأنا أحسبها لي. حدث ذلك على الرغم من السرعة التي قرأت بها الرواية والسرعة العظيمة التي ترجمتها بها أيضاً. ومن شاء أن يصدق فليصدق، ومن شاء أن يحسبني مجنونا فإن له ذاك. ولست أروي هذه الحادثة لأدفع عن نفسي فما يعنني هذا، وإنما أرويها على أنها مثال لما يمكن أن تؤدي إليه معابثة الذاكرة للإنسان. وليست الذاكرة خزانة مرتبة مبوبة، وإنما هي بحر مائج يرسب ما فيه ويطفو بلا ضابط نعرفه ومن غير أن يكون لنا على هذا سلطان. فالمرء يذكر وينسى. ويغيب عنه الشيء