المعارف، وكان يدرس له العربية؛ وكان الرافعي رديء الخط لا يكاد يقرأ خطه إلا بعد علاج ومعاناة فكان الأستاذ مهدي يسخر منه قائلاً:(يا مصطفى، لا أحسب أحداً غيري وغير الله يقرأ خطك!) وقد ظل خط الأستاذ الرافعي رديئاً إلى آخر أيامه، ولكن قراء خطه قد زادوا اثنين: هما سعيد العريان والعمال في مطبعة الرسالة. . .
وهنا أذكر حكاية طريفة تدل على مبلغ وفاء المرحوم الرافعي وتكشف عن شيء من خلقه: فقد صحبني مرة منذ عامين إلى نادي دار العلوم، وما أكثر ما كان يصحبني إليه إذا هبط القاهرة. وجلس وجلست معه في جمع كبير من المفتشين والمدرسين ورجال التعليم، وكان المرحوم الأستاذ أبو الفتح الفقي نقيب المعلمين السابق جالساً إلى جانب الأستاذ الرافعي يتحدثان، وأنا بينهما أترجم للأستاذ الرافعي حديث محدثه مكتوباً في ورقة، وبينما نحن كذلك والحديث يتشعب شعبه وينسرب في مساربه، والجمع حولنا مرهف الآذان يستمع إلى حديث الرجلين، إذ نهض الرافعي واقفاً، فانتبهت، فإذا القادم الأستاذ مهدي خليل يبدو من طوله وجسامته واكتمال عضله كأنما يطل علينا من نافذة. . . وإذا الرافعي يطأطأ له وينحني يهم أن يقبل يده؛ ثم عاد إلى مجلسه فمال عليّ يقول في همس:(هذا أستاذي مهدي خليل. . .) وفي صوته رنة هي أقرب إلى صوت طفل لأبيه حين يمر بهما معلم الغلام فيميل إلى أبيه يُسرّ إليه. . . ومضى الأستاذ مهدي غير عابئ ولا ملتفت بما فيه من طبيعة المح وعادة الإغضاء، وأحسبه لم يعن بالسؤال عن هذا الزائر الذي نهض له أو بالنظر إلى وجهه، على حين ظل ذكره على لسان الرافعي طول اليوم
وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية - وهي كل ما نال من الشهادات الدراسية - أصابه مرض مشف أثبته في فراشه أشهراً - وأحسبه كان التيفويد - فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثراً كان حبسة في صوته ووقراً في أذنيه من بعد.
وأحس الرافعي آثار هذا الداء يوقر أذنيه، فأهمه ذلك هما كبيراً، ومضى يلتمس العلاج لنفسه في كل مستشفى وعند كل طبيب، ولكن العلة كانت في أعصابه فما أجدى العلاج عليه شيئاً، وأخذت الأصوات تتضاءل في مسمعيه عاما بعد عام كأنها صادرة من مكان بعيد، أو كأن متحدثاً يتحدث وهو منطلق يعدو. . . حتى فقدت إحدى أذنيه السمع، ثم تبعتها الأخرى، فما أتم الثلاثين حتى صار أصم لا يسمع شيئا مما حواليه، وانقطع عن دنيا