للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إمام المنشئين ولا أمير الشعراء ولكنه من سادة الكتاب ومن أئمة المنشئين ومن الشعراء المجيدين، فعلام الإنكار؟!

وليس المنفلوطي من الروائيين الأفذاذ الأعجمية ولا القصاصين النوابغ ولكنه من خيرة من نقلوا الرواية الأعجمية إلى لغة الضاد وممن كتبوا في القصة فبلغوا فيها شأواً؛ فعلام التضليل؟!

إن في أدب المنفلوطي مآخذ، ما في ذلك ريب، ولكن ما ضعف أقله لا ينبذ جله. وعلى الناقد الحصيف ألا يجسم الأخطاء ويتعامى عن مواضع السموّ والجمال.

يقولون إن المنفلوطي لم يكن يهمه من الإنشاء غير الأسلوب وفي هذا القول غلوٌّ كثير.

فهو على افتتانه بالمظهر كان يولي (الجوهر) اهتمامه وعنايته؛ إلا أن روعة أسلوبه طغت على سواها فظهر أدبه أقرب إلى السطحية منه إلى العمق.

والتقعر لم يكن من شأنه فقد كان يلقي بآرائه في سلاسة ووضوح في ألفاظ جزلة ناعمة، فأتت ديباجته وضاءة مشرقة تغمرها العذوبة ويفيض عليها السحر. أيكون ساحر البيان سقيم الأدب هزيله، وتكون السلاسة جُرْماً والعذوبة إثماً؟!

ويقولون إن الجيد في لغة جيدٌ في كل لغة، وإن المنفلوطي إذا نُقِلَ إلى لغة أعجمية تعرِّى من بهرجه وظهر ما في أدبه من ضعف.

وهذا قول فيه نظر. فليس لقطعة من الأدب الإنكليزي جلالها ذاته لدى نقلها إلى الفرنسية مثلا، ذلك لأن لكل لغة سحرها الخاص في الأداء والتعبير لاسيما في الشعر والأدب.

وإنك عبثاً تستطيع بالغاً ما بلغت من قدرة أن تنقل شكسبير بسحره وفتنته إلى لغة أخرى؛ وما ذلك إلا لأنه كان - وهو المتضلع من لغته البصير بدقائقها وأسرارها - على عنايته بالفكرة شديد العناية بالأسلوب. ذلك الذي يفقد جل روعته بالنقل.

لندع شكسبير ولنتخذ أحد الكتاب المعاصرين مثالا. وليكن بول فاليري هذا المثل.

فهذه (مقبرته البحرية) تكاد تكون أحجية، وهي بالفرنسية معجزة في السبك، وما أحسب أن أحداً يأنس في نفسه القدرة على نقلها إلى لغة أخرى ويظل محتفظاً بقوتها وروعتها الأصيلتين، وليجرب نفسه من يشك في القول أو من يرتاب في صحته.

فتلاؤم الألفاظ في كل لغة له جرسه الخاص ووقعه الخاص، ولن يكون له مثل وقعه مثل

<<  <  ج:
ص:  >  >>