هي أيضاً تختلف في جوها وبيئتها، وتتباين بأبطالها وشخصياتها، ففي قصة (حنين) يدلف بك تيمور إلى صميم الريف العظيم، فيستطيع أن ينقلك إلى (شمسه المحرقة وظلاله الوارفة، وهوائه الساخن، ونسميه اللطيف، وغدرانه الوديعة، وسواقيه الناعسة) حتى ليسمعك (خوار بهائمه، وأغاني فلاحيه) ويريك (البهائم متراصة أمام معالفها ورؤوسها محنية على العلف تأكل في شره فلا تسمع منها غير جرش وقضم وأنفاس ترددها بين الحين والحين)، وفي (قلب غانية) يقودك إلى (حي غير مشهور) إذ وراء جدرانه حب قائم، وغرام يضطرم، فيطلعك على طراز من الناس تجري بهم الحياة وهم بطئان، وتتغير الدنيا في تقاليدها وألوانها وهم لا يريمون مكانهم، إذ الحياة (لا تستحق عندهم أكثر من حشو البطون، والنوم ملء العيون وما لهم من الفراغ بعد ذلك فهم يقضونه (في اطمئنان وتبلد) بين النارجيلة والثرثرة حول سلوك الناس؛ وفي قصة (سراب) و (حورية البحر) و (السجينة) يأخذ تيمور بيدك إلى منابت الأرستقراطية، فإذا أنت في أسر من أفرادها الباشا والبك ومن أهون متاعها السيارة والمسرة، ولها الأمر والنهي، وفيها الخدم والحشم، والظئر والمربية، (حياة كلها رخاء وبهجة تسير وفق الهوى) وكل شيء فيها ميسور (المال والمرأة والأخوان) أما في قصة (قبلة) فتيمور يهبط بك إلى طبقة نازلة فإذا أنت في (حارة قديمة ضيقة عابثة خالية من المصابيح لا تكاد الشمس تغرب عنها حتى تستولي عليها وحشة كئيبة) وهناك ترى (الدخاخني والمكوجي وبائع الفول) وتتعرف على السايس والعربجي والزبال إلى آخر ما هناك من الأشخاص والمعالم.
فتيمور من غير شك قصص شعبي لا يختص منه بطبقة من الطبقات، ولا يقصر أدبه على طائفة دون طائفة، ولكنه يضرب في كل ناحية ويجري في كل حلبة، وإن من المدهش حقا أن نرى ذلك الأديب النابه موفقاً في كل قصصه، صادقا في كل ما يصف، فكأنه نشأ في كل هذه الطبقات وخالطها ولمس أحاسيس أهلها واستشف ما يجول في خواطرهم وما يدور بنفوسهم فهو من الجميع وللجميع، يستوعب شؤونهم ويتحفز لها بقوة واحدة هي قوة الملكة المصورة، والنظرة الشاملة، فكأنه - وهو يصف - مصور لا كاتب، وكأن ما يصفه مبسوط أمامه فهو ينقله على وضعه الطبيعي، ومن ثم كان أدب تيمور هو الصورة الصادقة للحياة المصرية في أدق نواحيها، فهو للسائح في بلادنا دليل مرشد، وهو للمؤرخ القادم